رسالة المحاماة: واللغـة
اللغة هي لسان وعي الآدمي, وهي وعاء أفكاره وخواطره, وأداة تعبيره وبيانه.. هذه اللغة هي حياة المحاماة ووسيلتها في أداء رسالتها.. هي جسرها في مخاطبة العقل والوجدان, وفي جلاء الفكر وصياغة الحجة وتقديم البرهان.
قيمة اللغة تكمن في قدرتها علي التوصيل وهي قدرة مستمدة من ألفاظها وعباراتها, ومن موافقتها لأوانها ولمقتضي الحال الذي تستخدم فيه.
واللغات بعامة تواجه تحديات في كل عصر, وفي كل مجال.. هذه التحديات واجهتها العربية في الماضي والحاضر.. واجهت من قديم استشراء الزخارف اللفظية والسجع والجناس والطباق وأمراض مذهب البديع.. وواجهت عبر العصور ـ ومع الامتداد المكاني ـ تعدد اللهجات المحلية, وتسرب العامية المحلية إلي استعمالات الناس قراءة ثم كتابة, واستشري الداء حتي وصل إلي المصنفات الأدبية الروائية التمثيلية والشعرية, وشاع صداه في الأداء الإذاعي والتليفزيوني والصحفي.. فغابت الفصحي أو تكاد, وتفشت العامية تفشيا يهدد الفصحي, وهي مشكلة أضنت ولاتزال الغيورين علي لغة القرآن!
قضية اللغة قضية عامة مطروحة بشدة هذه الأيام, تستحضر أول ما تستحضر ـ أزمة غياب اللغة الفصحي باعتبارها الأساس المعتمد في صياغة ونقل المعاني والتعبير عنها.. وعلي مدار تاريخ اللغة بعامة, وهي كائن يرد عليها مايرد علي كل حي من تطور, تعرضت الفصحي لعاملين متنافرين: أولهما الإسراف في الزخارف اللفظية ومذهب البديع الذي عاني منه الأدب العربي معاناة مرضية كانت تأتي في معظم الأحيان علي حساب الفكرة وتحديد وضبط المعاني, حتي وجدنا في مقامات الهمذاني ثم الحريري صورا غريبة للإغراق في رصف الكلمات بغض النظر عن المعاني والأفكار, فنري في المقامة الثعلبية نسقا يلتزم بحرف منقوط ثم حرف غير منقوط وهكذا إلي آخر المقامة, وحتي رأينا مقامة كالمقامة القهقرية تقرأها من آخرها إلي أولها فتجدها بنفس الحروف والكلمات إذا قرأتها من أولها إلي آخرها.. علي أن هذا المرض الذي عاني منه الأدب طويلا, بقي بعيدا عن لغة الفقه والقانون, فلم يجد مجالا للنمو والاستشراء لأن الضبط والتحديد هما قوام التعبير في عالم القانون, وذلك استلزم ولايزال ضبط الألفاظ وضبط المعاني, فيما عدا تسلل الجناس والطباق البديع للمرافعات وغيرها في مرحلة سرعان ما
انحسرت إزاء تقدم علم القانون وفروعه وتوابعه وما اقتضته من طغيان الفكرة والمعني والحجة والبرهان علي الزخارف الجوفاء!
لم تطل إذن مخاطر الجناس والطباق والبديع, وإنما زحف محلهما تسرب العامية وتفشيها إزاء الغياب المتزايد للفصحي ـ هذا الغياب الذي استشري فطال حتي مجالات الأدب وانتقل إلي ساحات المحاكم.. الخطر الذي يواجه العربية في محراب العدالة الآن, لم يعد خطر الزخارف اللفظية أو أمراض مذهب البديع والجناس والطباق والسجع اللفظي والعقلي ـ وإنما الخطر الحقيقي يهب من التآكل العام للغة الفصحي وغياب الإلمام بها وبمفرداتها وترادفاتها وتراكيبها ومعانيها ونحوها وصرفها.. هذا التآكل العلم ـ مقرونا بطغيان العامية التي لا تلتزم بقواعد ولا بضوابط ـ هو الخطر الحقيقي الذي يهدد محاريب العدالة مثلما هو يهدد حياتنا بعامة وحياتنا الأدبية والفكرية علي التخصيص!! وأخطر من عامية اللفظ عامية الفكر.. ذلك أن عامية اللغة قد تصيب الفكر ذاته بالسطحية.. نعم, هناك من قدموا فكرا عميقا بالعامية, مثلما فعل صلاح جاهين, أو بيرم التونسي وغيرهما, بيد أن عامية أمثال هؤلاء عوضتها أعماقهم وعراضة معارفهم وثقافتهم وأبحارهم في عمق المعاني والأفكار.
علي أن الحياة القانونية بالذات لا تحتمل غياب الفصحي, ولا تحتمل طغيان العامية.. لا اعتراض في المرافعات بالذات علي استخدام العامية أحيانا وبحدود, حين يكون اللفظ العامي أو العبارة العامية أقدر علي توصيل المعني المراد, بيد أن الفصحي هي قوام الأحكام وأساس صياغة الفكر القانوني بعامة.. هذا الفكر الذي منه تأخذ وفيه تصب المرافعات والمذكرات للنيابة كانت أو للدفاع..
رياح غياب الفصحي وطغيان العامية لفظا ومعني, لا تهب من محاريب القانون والعدالة, وإنما تهب عليها وتؤثر فيها ـ كما تهب وتؤثر علي غيرها, فهي قطعة من المجتمع, وعناصرها مستمدة منه, وتتأثر بالضرورة بما يتأثر به.. ومع ذلك يبقي للقانون والعدالة درقة تستطيع أن تحتمي فيها ـ كما احتمي الفقه والأدب والدين ـ من مخاطر تآكل الفصحي وتسلل العامية!..
ومع أن أسلافنا لم يعانوا منعانيه الآن من تآكل الإلمام بالفصحي أو طغيان العامية, واقتصرت المعاناة علي التخلص من المبالغات والزخارف اللفظية ـ إلا أنهم فطنوا لأهمية الحفاظ علي اللغة الخاصة للأحكام والمرافعات, واعتنوا بلفت نظر الأجيال إليها, وتقديم قواعدها وأنماطها ونماذجها.. رأينا الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية(1937) يكل إلي المحامي زكي عريبي مهمة الكتابة في لغة الأحكام ولغة المرافعات, ويحرص علي أن يقدم نماذج وقطعا أدبية ناطقة لهذه وتلك, فيها عمق الفكرة مقرونة بعراضة المعني ودقة الصياغة وجمال العبارة.. كانت المرافعات المتاحة في ذلك الأوان وحتي عهد قريب قبل أن يصيبها ضيق الوقت أو ضيق الصدر, مدرسة هائلة للتواصل بين أضلاع المثلث الذهبي للقضاء وبين الأجيال المتعاقبة, التي ظلت تتأسي وتتعلم بالتلقي والمحاكاة من بحر هذا المعين الزاخر الذي لا ينضب!
اللغة التي بين أيدينا الآن, ليست اللغة التي كانت بأيدي وتناول وتداول أسلافنا منذ قرن من الزمان!
.. نعم هي هي اللغة العربية, ولكن اللغة مفردات وتراكيب, وكلاهما خاضع لسنة الحياة التي لا تبقي شيئا علي حاله.. اللغات بعامة في حالة تطور دائم, تستجد فيها مفردات وتتواري أو تتباعد أخري, وتستجد فيها تراكيب وتهجر في الإستعمال تراكيب أخري.. وليس المحامي أو غيره من أرباب الكلمة بمستطيع أن يعي لغته وعيا متفطنا, ولا أن يستخدمها استخداما صحيحا مؤثرا, مالم يلتفت إلي هذا ويدرك أسرار اللغة وتاريخها وتطورها وصيغ أساليبها ومواطن الجمال فيها.. من عظمة أسلافنا من الجيل الذهبي أنهم كانوا بنائين عبدوا طريقا بالغ القفر والجفاف.. حينما شقوا طريقهم كانت العربية مهجورة مهيضة في بلدها, وكانت الغلبة للتركية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية!! وتوارت العربية في بلدها بين ناسها, حتي عدا الكرد والشركس والإرناءوط وأسري ابراهيم باشا من بلاد المورة وكريت والاناضول علي أهل البلاد فصاروا حكاما يترفعون علي أهل مصر وعلي لغتها, فتراجعت اللغة العربية في المرافعات والأحكام, ومن يرجع إلي سجلات وأحكام المحاكم في ذلك الزمان يجد العجب العجاب في تردي لغة الأحكام ومصطلحاتها وسيادة التركية التي كانت لغة البلاد الرسمية, وتشويه النقل الي اللغة العربية, مع تواضع وضعف وركاكة كتابة المذكرات والأحكام, ولعل بداية نهضة اللغة العربية في المحررات القضائية الرسمية يرجع إلي البنائين العظام في باقة رائعة كان منها الأستاذ شفيق بك منصور واسماعيل باشا صبري والاستاذ الإمام محمد عبده وسعد باشا زغلول وأمين باشا فكري وعبدالعزيز باشا فهمي ومحمد باشا فخري وأحمد فتحي باشا زغلول وقاسم بك أمين ومحمد بك صالح وحفني بك ناصف وغيرهم.. هؤلاء الذين حملوا الشعلة, وانتقلوا نقلة ملحوظة بأسلوب كتابة الأحكام وتطعيمها بمباديء الشرع والقانون. حتي النقل إلي العربية, كان نقلا ركيكا متأثرا بأفول اللغة كتابة واستعمالا, وامتلاء الساحة بهؤلاء الأجانب وأسمائهم ولغاتهم.. ومن يراجع أوراق المحاكم في ذلك الزمان يجد الموره لي ـ والكريتلي.. والسلحدار, وكخيا,.. الخ, وساعد علي سيادة الأجانب ولغاتهم وغياب العربية وتفشي الأمية تفشيا مريعا وأن اكثر من99% من الأهالي لايقرأون ولايكتبون وغلبت الحكام الأجانب علي المصريين, فكان أن أصابت الركاكة اللغة العربية حتي بلسان أبنائها والناقلين إليها.. كان المتداول في المرافعات والمذكرات والأحكام ألفاظا وعبارات مثل: ينجمل ـ موكليني ـ منمده ثلاثة شهر ـ عن هذه المادة ـ والآن رغبت انفصالي منه واستولاي علي ـ وعبارات لا علاقة لها بالعربية لفظا أو نحوا وصرفا!!
ولعل هذا الغياب المؤلم للعربية, سبب المغالاة في رد الفعل الذي أخذ لدي الأسلاف صورة الإسراف في عبادة اللفظ واستخدام الزخارف اللفظية والطباق والجناس والبديع, تعويضا ـ فيما يبدو ـ عما أمض النفوس وأوجع القلوب من غياب العربية في بلدها وبين أهلها!!
أدرك أسلافنا البناءون العظام أن قضية اللغة قضية القضايا, وأن استرداد العربية مكانتها الواجبة في وطنها وبساحات المحاكم تدوينا ومرافعة وأحكاما, يستوجب جهودا كبيرة, فاهمة وواعية ومتفطنة, ومدركة في الوقت نفسه مطالب الأداء القانوني ومايستوجبه من ضبط وتحديد المعاني تحاشيا للميوعة والهلامية التي تضيع معها المعاني أو تشيع بين تفسيرات متعددة يكرهها القانون وتأباها العدالة!
حين ندرك هذا, ننظر بعين الفهم والعرفان والتقدير لما إهتم به أسلافنا العظام, وفيما كلفوا به الأستاذ زكي عريبي المحامي ليكتب للكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية ـ بحثا ضافيا مستفيضا في لغة الاحكام وفي لغة المرافعات. كان ذلك في ثلاثينات القرن الماضي, وكانت اللغة العربية قد جاوزت الأفول الطويل, وتعدت الركاكة والضعف, وأغتنت استعمالات الألفاظ والتراكيب, وحلت الصياغة الأدبية في الكتابة وفي المشافهة محل ما كان من ضعف ووهن, وبدأت الأنظار تلتفت الي عيوب مذهب البديع وسلبيات الإفراط فيه علي ضبط المعاني والألفاظ.. ومع ذلك لم يهمل هؤلاء الأسلاف الكبار أن لغة الأحكام والمرافعات لاتزال تحتاج الي التفات خاص والي عناية خاصة, ليس حسبها أن تعطي الساري أو الجاري وإنما طموحها أن تواكب المستحدثات والمستجدات وأن تكون متهيئة لما يأتي به المستقبل, قادرة علي الأداء والتعبير طبقا لمعطياته ولوازمه!
أدرك هؤلاء البناءون العظام ان الإلمام العام باللغة العربية بيانا وبلاغة ونحوا وصرفا ـ لا يغني الكاتب أو المترافع في محراب العدالة عن قواعد وقيود تلزمه ليتحقق في مرافعته أصل البلاغة: موافقة الكلام لمقتضي الحال.. هذه الموافقة تقتضي إدراك متاعب اللغة التي تستوجب ملاحقة الجديد في المعاني والمستحدثات وفروع العلوم التي شملتها وتشملها النهضة بما استدعي ويستدعي الإلمام بالجديد لتستبقي اللغة قدرتها علي التعبير. ومن هذه الموافقة لمقتضي الحال الإلتفات الي عدم تجاوز القصد بالوقوع في الاستطرادات والسجع والارداف ـ كمن إذا قال الظلم ألحق به الاستبداد, أو إذا تكلم عن الرحمة أردفها بالإشفاق.. ثروة اللغة بالمترادفات ـ وهذا شأن العربية ـ يغري بهذا الاستطراد والسجع, وهو داء يجب علي الأدب بعامة أن يتخلص منه وأن يدرك أهمية نحت اللفظ وصياغة العبارة علي قدر المعني المراد.. أن يدرك الفروق الدقيقة بين معاني الألفاظ مثل الفارق بين الإقدام أو الشجاعة أو الجرأة إو الهمة او الفارق بين اللين والجلد والاحتمال وأن يعرف أن صياغة القانون وفروعه من مؤلفات وبحوث وأحكام ومذكرات ومرافعات تستوجب الدقة والضبط والتحديد.. المعاني المترهلة ـ قد تفوت في لغة الخطاب العادية أو الأدبية, ولكنها لا تسعف في صياغة الفقه والقانون والمرافعة. ومن متطلبات الموافقة ـ لبلاغة المرافعة ـ البعد عن التكرار وعن الاملال وعن اللجوء الي المأثورات التي ماعت وأملت من كثرة ترديدها فيما يحسن ومالا يحسن حتي ملت الأسماع من سماعها من كثرة ترديدها وفقدت القدرة علي التأثير المرجو منها!