رسالة المحاماة: إبداع لغوي وفكري
تشترك المرافعة الشفوية مع المكتوبة, في أنهما تسعيان الي هدف واحد, وترميان الي غاية واحدة, كما تشتركان في أن الإقناع هو حجتهما ووسيلتهما.. إلا أن الأسلوب فيهما قد يفترق وقد يختلف أشد الاختلاف.. سواء في المادة, او في الصياغة, او في الجرس.. فاحتياج المرافعة الشفوية والمكتوبة الي خطاب العقل والوجدان, لا يعني ان الجريمة هنا كالجريمة هناك, ولا يعني ان الاسلوب هنا كالأسلوب هناك.. المرافعة الشفوية أساسها الإلقاء والارتجال, وهو فن يكمله الحضور النابع من مقومات الشخصية ومواهبها وقدراتها, والمتوقف علي امتلاكها ناصية التواصل مع المتلقين, وفنها في قياس مقدار المعمار وجرس الأذن الذي يحرك الوجدان موصولا في ذات الوقت بخطاب وحجة وبرهان العقل.. هذا المزيج يطرح حال الارتجال والإلقاء شكلا من اشكال الأداء المسرحي الجاد, فيه يقوم المحامي بدور مؤلف النص وبدور المخرج والمؤدي أساسا.. وربما أتاح له هذا الجمع بين الأدوار الثلاثة أن يوفق بينها من واقع ما يستمده من طبيعته, وقدراته وما فطر عليه.. قد روينا فيما سلف كيف كان امام المعتزلة قادرا علي أن يتكلم بالساعات متفاديا الحرف الذي يظهر لثفته, وهذه المقدرة المستمدة من علمه الواسع باللغة وحضور بديهته وسرعة خاطره, والتي بها يصوغ العبارات( كشأن مؤلف النص), هي التي كانت تمكنه من ان يحسن الأداء بتفادي ما يهزه أو يعكره او يفسد الجرس علي آذان المستمعين.. كذلك المحامي, فلا كمال لأحد, وكلنا محصلة إيجابياته وسلبياته, ما يحسنه وما لا يحسنه, واجتماع الصياغة و الأداء له, يمكنه من ان يختار في المعالجة وفي السبك والصياغة ما يتفق مع قدراته في الأداء وما يحسنه منه.. يجري ذلك كله, ويجب أن يجري, من خلال سيناريو يحسن اختيار المقدمة مع براعة الاستهلال, ويتقن سبل الاستنباط والاستخلاص مع براعة الاستدلال وقوة البيان ومنطق واستقامة البرهان, ليخلص ذلك كله في ايقاع محسوب الي الخاتمه التي لها هي الأخرى موازين في المرافعة الشفوية التي تشكل قوام الدفاع في القضايا الجنائية خاصة.
والمرافعة المكتوبة, او ما اصطلح علي تسميته بالمذكرات, تتفق مع الشفوية فيما أسلفناه, ولكنها تختلف في غير ذلك, فتستخدم ما قد يعز استخدامه في الارتجال, وتسقط ايضا مالا لزوم لاستعماله فيما تقرأه وتتابعه العيون, فجرعة العاطفة اقل بالضرورة والطبيعة في المذكرات عنها في المرافعات, ومعمار وجرس الصياغة يختلف فيها وهي تخاطب جرس العين عن المرافعات التي هي كلام منطوق لا غناء فيه عن جرس الأذن.. علي ان المذكرات تتميز بأنها تأمن مخاطر ومنزلقات الارتجال, وتفسح الفرصة للكاتب بأكثر مما يتاح للمرتجل, فهو الي نفسه ومراجعه وأوراقه جالس, ثم هو يختار للكتابة أنسب الأوقات لصفاء ذهنه وخلو باله وامتلاك قدرته علي إحسان التفكير وصياغة ما يريد في مهل وأناه, وفي تمعن وتدبر وتأمل.. في متناوله الوقت, وفي متناوله مع الوقت ان يعود الي ما يشاء من الكتب والمراجع والمؤلفات مهما تعددت, وفي ان يعمل فيها النظر والترجيح والانتقاء, وان يأخذ عنها ومنها ـ في أمان ـ ما يريد ان يحتج او يقوي حجته به.. لا ينشغل وهو يسبك عبارته بما يطبق من ظروف علي المرتجل, فيعمل الاختيار والتبديل والتوفيق بين الالفاظ والعبارات, ولا يضيره ان يلجأ الي الجمل الاعتراضية, فلا بأس عليها فيما تطالعه العيون المتاح لها ان تعاود قراءة ما فاتها تحصيله من العبارة, لذلك كله كانت المذكرات مجالا لإبداع من نوع آخر, تحتل المقدمة في القضايا المدنية والتجارية والمالية والادارية والدستورية والشرعية, ويتاح لها في الاحتجاج والتأثير الممتد مالا يتاح للمرافعات الشفوية.. المرافعات الشفوية معرضة للبخر, بل هو يرد عليها بالحتم والضرورة, سواء فيما يتبخر اثناء التدوين الذي لا يمكن ان يلاحق سرعة الكلام والالقاء, ام فيما يصيبها من انطمار في صفحة وجدان المتلقي الذي هو في النهاية بشر مشدود بشواغله العامة والشخصية, وبتلاحقات القضايا والاعمال,
وبتزاحم الصور التي يستقبلها كل يوم بل كل ساعة ولحظة, دون ان تتاح له فرصة استرجاع ما استمع اليه بأمس او من زمن مر طال أم قصر وزحفت عليه المستجدات وتبخر ما قبل بددا لا سبيل الي استعادته او استعادة الاستماع اليه, بينما المذكرة كالكتاب.. محفوظة يستطيع طالبها ان يعود اليها في أي وقت يشاء, فتذكره بما تعرض للنسيان او البخر او الانطمار, ومن اجل ذلك كان اسمها الاصطلاحي المشتق من الذاكرة والتذكر والتذكار!.
فالمذكرات كما تمثل بحبوحة وسعة للكاتب, تمثل تذكيرا متاحا علي الدوام للمخاطب.. ثم هي فرصة أوسع بغير مراء ـ من فرصة المرافعة ـ في الاجادة والاتقان وغلبة الفكر والتأمل والتدبر ودقة المعالجة وكمال البيان!.
قد يندر بين المحامين من يتقن المرافعة والكتابة معا, فلكل منهما عناصر وإمكانات يختلف امتلاكها من شخص إلي آخر.. علي ان هذه القدرة لم تحل دون ان تشهد محاريب القضاء والمحاماة, محامين برعوا في المرافعة وبرعوا في الكتابة, وبلغوا القمة في هذه وتلك.. قد ترجح البراعة هنا علي البراعة هناك, فيكون الرجحان في المرافعة الشفوية أكثر من المذكرات المكتوبة رغم البراعة فيها ايضا والاقتدار, والعكس, علي اني لست انسي براعة الاستاذ الجليل محمد عبد الله محمد في المرافعة وفي الكتابة علي السواء, ولست انسي ان امتلاكه الفكر والتعمق قد مزج مرافعاته الشفوية بما يعز علي غيره.. ولست انسي الاستاذ الجليل مصطفي مرعي الذي ترافع فأبدع, وكتب فأجاد وأتقن, ولست انسي مرافعات الاستاذ المبدع مكرم عبيد الذي تقرأ مرافعاته الشفوية فتحس بنبضها منطوقة كأنك استمعت اليها من لسانه, وتجترها كأنك مع سبك صيغ بمهل واتقان فتبلغ الغاية وقمة المراد!.
هؤلاء وأترابهم ـ كانوا قاطرة المحاماة, وسدنة العدالة والفكر والقانون, الاقتداء بهم وبعلمهم ومثلهم واجب ليتقدم الحاضر الي الماضي الذي كان!.
تشترك المرافعة الشفوية مع المكتوبة, في أنهما تسعيان الي هدف واحد, وترميان الي غاية واحدة, كما تشتركان في أن الإقناع هو حجتهما ووسيلتهما.. إلا أن الأسلوب فيهما قد يفترق وقد يختلف أشد الاختلاف.. سواء في المادة, او في الصياغة, او في الجرس.. فاحتياج المرافعة الشفوية والمكتوبة الي خطاب العقل والوجدان, لا يعني ان الجريمة هنا كالجريمة هناك, ولا يعني ان الاسلوب هنا كالأسلوب هناك.. المرافعة الشفوية أساسها الإلقاء والارتجال, وهو فن يكمله الحضور النابع من مقومات الشخصية ومواهبها وقدراتها, والمتوقف علي امتلاكها ناصية التواصل مع المتلقين, وفنها في قياس مقدار المعمار وجرس الأذن الذي يحرك الوجدان موصولا في ذات الوقت بخطاب وحجة وبرهان العقل.. هذا المزيج يطرح حال الارتجال والإلقاء شكلا من اشكال الأداء المسرحي الجاد, فيه يقوم المحامي بدور مؤلف النص وبدور المخرج والمؤدي أساسا.. وربما أتاح له هذا الجمع بين الأدوار الثلاثة أن يوفق بينها من واقع ما يستمده من طبيعته, وقدراته وما فطر عليه.. قد روينا فيما سلف كيف كان امام المعتزلة قادرا علي أن يتكلم بالساعات متفاديا الحرف الذي يظهر لثفته, وهذه المقدرة المستمدة من علمه الواسع باللغة وحضور بديهته وسرعة خاطره, والتي بها يصوغ العبارات( كشأن مؤلف النص), هي التي كانت تمكنه من ان يحسن الأداء بتفادي ما يهزه أو يعكره او يفسد الجرس علي آذان المستمعين.. كذلك المحامي, فلا كمال لأحد, وكلنا محصلة إيجابياته وسلبياته, ما يحسنه وما لا يحسنه, واجتماع الصياغة و الأداء له, يمكنه من ان يختار في المعالجة وفي السبك والصياغة ما يتفق مع قدراته في الأداء وما يحسنه منه.. يجري ذلك كله, ويجب أن يجري, من خلال سيناريو يحسن اختيار المقدمة مع براعة الاستهلال, ويتقن سبل الاستنباط والاستخلاص مع براعة الاستدلال وقوة البيان ومنطق واستقامة البرهان, ليخلص ذلك كله في ايقاع محسوب الي الخاتمه التي لها هي الأخرى موازين في المرافعة الشفوية التي تشكل قوام الدفاع في القضايا الجنائية خاصة.
والمرافعة المكتوبة, او ما اصطلح علي تسميته بالمذكرات, تتفق مع الشفوية فيما أسلفناه, ولكنها تختلف في غير ذلك, فتستخدم ما قد يعز استخدامه في الارتجال, وتسقط ايضا مالا لزوم لاستعماله فيما تقرأه وتتابعه العيون, فجرعة العاطفة اقل بالضرورة والطبيعة في المذكرات عنها في المرافعات, ومعمار وجرس الصياغة يختلف فيها وهي تخاطب جرس العين عن المرافعات التي هي كلام منطوق لا غناء فيه عن جرس الأذن.. علي ان المذكرات تتميز بأنها تأمن مخاطر ومنزلقات الارتجال, وتفسح الفرصة للكاتب بأكثر مما يتاح للمرتجل, فهو الي نفسه ومراجعه وأوراقه جالس, ثم هو يختار للكتابة أنسب الأوقات لصفاء ذهنه وخلو باله وامتلاك قدرته علي إحسان التفكير وصياغة ما يريد في مهل وأناه, وفي تمعن وتدبر وتأمل.. في متناوله الوقت, وفي متناوله مع الوقت ان يعود الي ما يشاء من الكتب والمراجع والمؤلفات مهما تعددت, وفي ان يعمل فيها النظر والترجيح والانتقاء, وان يأخذ عنها ومنها ـ في أمان ـ ما يريد ان يحتج او يقوي حجته به.. لا ينشغل وهو يسبك عبارته بما يطبق من ظروف علي المرتجل, فيعمل الاختيار والتبديل والتوفيق بين الالفاظ والعبارات, ولا يضيره ان يلجأ الي الجمل الاعتراضية, فلا بأس عليها فيما تطالعه العيون المتاح لها ان تعاود قراءة ما فاتها تحصيله من العبارة, لذلك كله كانت المذكرات مجالا لإبداع من نوع آخر, تحتل المقدمة في القضايا المدنية والتجارية والمالية والادارية والدستورية والشرعية, ويتاح لها في الاحتجاج والتأثير الممتد مالا يتاح للمرافعات الشفوية.. المرافعات الشفوية معرضة للبخر, بل هو يرد عليها بالحتم والضرورة, سواء فيما يتبخر اثناء التدوين الذي لا يمكن ان يلاحق سرعة الكلام والالقاء, ام فيما يصيبها من انطمار في صفحة وجدان المتلقي الذي هو في النهاية بشر مشدود بشواغله العامة والشخصية, وبتلاحقات القضايا والاعمال,
وبتزاحم الصور التي يستقبلها كل يوم بل كل ساعة ولحظة, دون ان تتاح له فرصة استرجاع ما استمع اليه بأمس او من زمن مر طال أم قصر وزحفت عليه المستجدات وتبخر ما قبل بددا لا سبيل الي استعادته او استعادة الاستماع اليه, بينما المذكرة كالكتاب.. محفوظة يستطيع طالبها ان يعود اليها في أي وقت يشاء, فتذكره بما تعرض للنسيان او البخر او الانطمار, ومن اجل ذلك كان اسمها الاصطلاحي المشتق من الذاكرة والتذكر والتذكار!.
فالمذكرات كما تمثل بحبوحة وسعة للكاتب, تمثل تذكيرا متاحا علي الدوام للمخاطب.. ثم هي فرصة أوسع بغير مراء ـ من فرصة المرافعة ـ في الاجادة والاتقان وغلبة الفكر والتأمل والتدبر ودقة المعالجة وكمال البيان!.
قد يندر بين المحامين من يتقن المرافعة والكتابة معا, فلكل منهما عناصر وإمكانات يختلف امتلاكها من شخص إلي آخر.. علي ان هذه القدرة لم تحل دون ان تشهد محاريب القضاء والمحاماة, محامين برعوا في المرافعة وبرعوا في الكتابة, وبلغوا القمة في هذه وتلك.. قد ترجح البراعة هنا علي البراعة هناك, فيكون الرجحان في المرافعة الشفوية أكثر من المذكرات المكتوبة رغم البراعة فيها ايضا والاقتدار, والعكس, علي اني لست انسي براعة الاستاذ الجليل محمد عبد الله محمد في المرافعة وفي الكتابة علي السواء, ولست انسي ان امتلاكه الفكر والتعمق قد مزج مرافعاته الشفوية بما يعز علي غيره.. ولست انسي الاستاذ الجليل مصطفي مرعي الذي ترافع فأبدع, وكتب فأجاد وأتقن, ولست انسي مرافعات الاستاذ المبدع مكرم عبيد الذي تقرأ مرافعاته الشفوية فتحس بنبضها منطوقة كأنك استمعت اليها من لسانه, وتجترها كأنك مع سبك صيغ بمهل واتقان فتبلغ الغاية وقمة المراد!.
هؤلاء وأترابهم ـ كانوا قاطرة المحاماة, وسدنة العدالة والفكر والقانون, الاقتداء بهم وبعلمهم ومثلهم واجب ليتقدم الحاضر الي الماضي الذي كان!.