لنظام القانوني لمفاوضات العقود الدولية
الدكتور/ أحمد عبد الكريم سلامة*
إستهـلال
1. العقد قانون الأطراف التعاقدي: إستقر الفكر القانوني على أن العقد، عموما، هو توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني معين. وهذا الأثر القانوني effet Juridique هو جوهر أو ثمرة التراضي أو الإتفاق بين أطراف العقد، وهو لا يكون كذلك إلا بمقتضى ما وضعه هؤلاء من محددات وضوابط، التي من غيرها لا يمكن الركون إليه، ويظل هملا تتلاطمه أهواء من تصوروه.
خذ مثلا، لو باع شخص سلعة لآخر، فإن التراضي وتبادل الإرادات، أي الإيجاب والقبول بين الطرفين، يرتب أثرا هو نقل ملكية وحيازة المبيع من البائع إلى المشتري، وهذا الأثر لا يتصور بغير أن يكون التراضي سليما صادرا عن شخص ذي أهلية للتصرف، ويتم الإفتاق حول ماهية المبيع ومواصفاته، ووقت ومكان تسليمه، وثمنه، ووقت ومكان وكيفية الوفاء به، وحكم تأخير الوفاء....
إن ما يتصوره أطراف العقد ويضعوه، حول كل تلك المسائل، يعتبر في الواقع قواعد سلوكية إتفاقية تضبط علاقاتهم ، وهي قواعد قانونية خاصة Lex privata تشبه القواعد القانونية الصادرة من السلطة التشريعية المختصة .
2. القانون التعاقدي له سمات القانون الرسمي: وليس في ذلك مغالاة، فتلك القواعد القانونية الإتفاقية تحقق الهدفين الذين يطمح إليهما أي تشريع وضعي رسمي: العدالة والأمان.
من ناحية العدالة la justice، فقد قيل إن كل ما هو تعاقدي يكون عادلا فالشخص لا يرتضي إلا ما يكون في صالحه، أي ما يكون عادلا، وكما يقول KANT "عندما يقرر أحد شيئا في مواجهة آخر، فمن الممكن أن ينطوي على بعض عدم العدالة، ولكن عدم العدالة يكون مستحيلا حينما يقرر الشخص لنفسه" . كما هو الحال في العقد، فإذا كان العقد يخلق قواعد سلوكية قانونية، فإن تلك القواعد هي الأكثر عدالة، لأنها القواعد المتأيتة من الإرادة والمقبولة من صانعها .
ومن ناحية الأمان La Securte، فإن القواعد المنظمة للعلاقة العقدية لا تتأتى من مصدر خارجي، بل المتعاقدون هم صناعها، ليست غريبة عنهم، وتتوافق مع تطلعاتهم، وتطبيقها، أو الدعوة إلى الإلتزام بها، لا يشكل إخلالا بتوقعات من تخاطبه. فكما أن القاعدة القانونية العادية هي نتاج إرادة المجتمع المجسدة في السلطة التشريعية، فهي تتأتى من داخل المجتمع .
فإن القاعدة الإتفاقية نتاج إرادة المتعاقدين، فهي تتأتى من داخل هؤلاء، وبالتالي فهي لا تخل بتوقعاتهم، بل تعمل على إحترام حقوقهم المتولدة من العقد، وتحقيق التعاون بينهم.
وليس غريبا هنا أن يعترف المشرع الوضعي ذاته بأن العقد هو قانون أو شريعة المتعاقدين. وهو قانون خاص تتغيا قواعده الغايتان المشار إليهما.
3. العقد الدولي وإعداد القانون التعاقدي الدولي: ومع التحفظ الواجب بخصوص فكر المدرسة الإجتماعية، والضوابط الواجبة على مبدأ سلطان الإرادة ، والعقد شريعة المتعاقدين حماية للطرف الضعيف في العقد عموما، فإن الفقه ما زال يردد، بخصوص العقود الدولية مبدأ السيادة القاعدية Souverainete normative للمتعاقدين، أي مقدرتهم على خلق قواعد اتفاقية خاصة، تضبط وتحكم علاقاتهم التعاقدية . فالعقد خلاق لقواعد قانونية، ومصدر مستقل للحقوق والإلتزامات.
ويصل الفقه المشار اليه إلى القول إن العقد الدولي يعتبر "القانون التعاقدي الدولي" أو "القانون الدولي للأطراف المتعاقدة" ، النابع من الحرية الدولية للإتفاقات ، أو الحرية التعاقدية الدولية .
ومبدأ الحرية التعاقدية الدولية قد إعترف به وأقره المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص UNIDROIT في مجموعة المبادئ المتعلقة بعقود التجارة الدولية التي تبناها عام 1994، حيث نصت المادة 1/1 على أن "يكون الأطراف أحرارا في إبرام العقد وفي تحديد مضمونه" .
إذا كان الأمر كذلك، وحتى تأتي القواعد القانونية الإتفاقية، التي يتكون منها هذا القانون التعاقدي Iex contractualis الدولي مناسبة وكاملة، وحتى يمكنها تحييد وإقصاء القوانين الوطنية، التي أضحت لا تتلاءم مع خصوصيات المعاملات التجارية الدولية ، فإن على الأطراف، التي ترغب في إبرام العقود الدولية، أن تبذل قصارى جهدها في إعداد عقد جيد، محبوك الصياغة القانونية. وهذا يقتضي الدخول مبكرا في مفاوضات ومناقشات تمهد لإبرام العقد النهائي، وكذلك بذل الجهد في تحرير وصياغة العقد الدولي، حتى يكون كافيا بذاته مغنيا عن اللجوء إلى القوانين الوطنية.
4. تقسيم: تعتبر المفاوضات Negociations – Pourparlers من المقدمات الأولية اللازمة، على الأقل في ظل الأوضاع المعاصرة للمعاملات والمبادلات الإقتصادية للسلع والخدمات عبر الحدود، لإبرام العقود الدولية، فتلك العقود تستتبع، بالضرورة إنتقال القيم الإقتصادية بين الدول المختلفة، وتتأثر بها، من ثم، المصالح الحيوية للأفراد أطراف التعامل الدولي، بل وتلك الدول ذاتها.
وقد أرسي الواقع العملي، وممارسات رجال الأعمال وشركاء العمليات التجارية الدولية، بعض القواعد والتطبيقات التي تحكم بدء وسير وإنتهاء مفاوضات العقود الدولية، وهي قواعد تبدو أساسية في ظل فراغ تشريعي حقيقي في مختلف التشريعات المقارنة.
والتعرف على تلك القواعد المنظمة لمفاوضات العقودالدولية يستلزم منا أن نعرض في:
مبحث أول: الأعداد للمفاوضات وخطابات النوايا.
مبحث ثان: تنظيم مفاوضات العقد الدولي.
المبحث الأول
الإعداد للمفاوضات وخطابات النوايا
5. تقديم: إن الإعداد للمفاوضات، التي تسبق إبرام العقد الدولي، هو من العمليات الشاقة التي تستغرق وقتا وجهدا ونفقات، بل يمكن القول إن المفاوضات التي يعد لها جيدا تنتهي، غالبا، بإبرام عقد ناجح، يتم الإتفاق عليه، وتنفيذه، بطريقة سليمة هادئة ويحقق كل طرف ما يبتغيه من ورائه.
ومن بين ما يتم الإعداد له للمفاوضات التعاقدية، الإتصال بين الأطراف ودعوة أحدهم الآخر للتحاور وتبادل الآراء حول العملية التعاقدية المزمع الدخول فيها بينهم، ومن بين أهم وسائل الإتصال ما يسمى بخطابات النوايا، والتي نعرض لها فيما يلي في مطلبين.
المطلب الأول
ماهية خطابات النوايا
أولا: تعريف خطاب النوايا وغاياته:
6. خطابات النوايا والعقود الدولية المعاصرة: المتأمل في العقود الدولية المعاصرة، كعقود إنشاء البنية التحتية، إقامة المطارات ومحطات الطاقة بنظام الـ B.O.T ، وعقود إنشاء المصانع بنظام المفتاح في اليد cle en main أو الإنتاج في اليد Produit en main وعقود نقل التكنولوجيا وعقود خدمات المعلومات contral informatique وعقود الإئتمان التأجيري الدولي ...... .
يدرك أنها، على خلاف العقود الدولية اليومية البسيطة كالبيع أو النقل أو غيرها ، تنطوي على العديد من المسائل الفنية الدقيقة، التي لا يمكن حسمها في جلسة أو جلستين، بل يستلزم الأمر إجتياز مراحل متعاقبة ومستمرة صوب العقد النهائي ، يتم فيها إتفاقيات تمهيدية Preliminary agreemenis تحرر في مستندات تحضيرية documents preparatoires تبادل فيها الأطراف الرؤية والمفاهيم حول أمور تتصل بالمفاوضات حول العقد النهائي، ولعل من أهمها ما يسمى بخطاب النوايا أو التفاهم .
7. تعريف خطاب النية: وخطاب النية Lettre dintention ، أو خطاب التفاهم Letter of understanding ، أو مذكرة التفاهم Memorandum of understanding أو مذكرة أساسيات الإتفاق heads of agreement ليس من السهل وضع تعريف محدد له، وبالتالي تحديد وضعه القانوني، وذلك لأن الواقع العملي يدل على أن لخطابات النوايا أشكالا مختلفة، وتتناول موضوعات شتى يتعذر الربط بينها لإستخلاص محور تتمركز حوله كما سنتبين من خلال عرض غايات وأهداف تلك الخطابات. ومع ذلك حاول البعض تقديم تعريف له، بالقول إنه "وثيقة مكتوبة قبل العقد النهائي تعكس الإتفاقات أو الفهم المبدئي لطرف أو أكثر من أطراف التعاقد التجاري بغية الدخول في عقد مستقبلي" .
غير أننا نرى أن خطاب النوايا يجب أن يعرف بما يتفق مع مسماه، فنقول إنه مستند مكتوب يوجه من طرف يرغب في التعاقد على أمر معين إلى الطرف الآخر يعرب فيه عن رغبته تلك، ويطرح فيه الخطوط العريضة للعقد المستقبل المزمع إبرامه ويدعوه إلى التفاوض والدخول في محادثات حوله .
ونعتقد أن أي مستند لا ينطوي على إبداء الرغبة في التعاقد، ولا يتضمن بيانا للنقاط الرئيسة والخطوط العريضة للعملية التعاقدية المستقبلية، ولا يشتمل على دعوة الطرف الآخر للإلتفاء والجلوس سويا للتفاوض حولها، لا يعتبر ذلك المستند خطابا للنوايا، بل يعد مستندا آخر يجب ان يسمى بإسمه.
8. الأصل أن خطاب النوايا غير ملزم لمن أصدره: الملاحظ أن لفظ "نيه" – Intent – intention يفيد أمرا مستقبليا لم يطرح بعد أن يكشف عنه، وهو لفظ لا يفيد الإلزام ، وغالبا ما يقصد محرر خطابات النوايا عدم الإلتزام بأي شيء لمجرد صدروها عنهم ، لا سيما وأن مقصدهم هو رسم الخطوط العامة ووضع الإطار المبدئي للمفاوضات المستقبلية تمهيدا لإبرام العقد النهائي.
وحتى يظل خطاب النوايا خارج دائرة الإلزام فيجب أن يراعى في صياغته عدة أمور: منها الحرص على عدم إستخدام أي جملة تعبيرية أو لفظ يفيد الإلتزام، مثل يقبل، يرتضي، يوافق، ويحسن اللجوء الى الفاظ أخرى مثل، يقدر الطرف او يبدو ملائما او من المستحب أن.... ومنها النص على حرية كل طرف في إجراء مفاوضات موازية مع طرف آخر، أي عدم القبول بشرط أو بتعهد التعامل القصري أو المانع Engagement d'exclusivite . وحبذا لو تم تضمين الخطاب عبارة تفيد أنه ليس له أية قوة ملزمة No binding . وعلى كل حال، فإن البادي في الواقع العملي، أن جانبا هاما من خطابات النوايا لا يكون كذلك، ولا يدل على أنه دعوة لبدء مرحلة المفاوضات الموصلة إلى إتفاق أو عدمه.
9. إمكانية إرتضاء الطابع الملزم لخطاب النوايا: من خطابات النوايا ما يتضمن اتفاقا بين الأطراف، حيث تدل عبارات الخطاب عن إبرام العقد فعلا، وذلك إذا ما كان يعبر عن قبول أحد الطرفين لإيجاب وعرض الطرف الآخر، من ذلك مثلا تأكيد الخطاب على أنه "نتشرف بإبلاغكم أننا قد علمنا مضمون العرض المقدم منكم بخصوص عقد إنشاء وتوريد وتركيب وتجربه مصنع.... و وافقنا على شروطه، وإننا نقبل ذلك العرض.... مع الرجاء إبلاغنا خلال مدة عشرة أيام بخطاب مسجل بعلم وصول موقع ومعتمد تاريخه، بالرد على قبولنا لعرضكم المشار اليه.
ومن خطابات النوايا ما يتضمن الإعلان عن الإلتزام الفعلي بما تم التفاوض عليه، ويحدد الصيغة النهائية المقترحة للعقد الأصلي. من خطابات النوايا ما يعتبر فعلا عقدا غير أنه معلق على شرط أو أكثر، كموافقة السلطة المختصة، مجلس الإدارة أو الوزير المختص، أو الحصول على إئتمان مصرفي، أو ترخيص جمركي.... وهنا إذا تحقق الشرط أنتج العقد آثاره بأثر رجعي من يوم توقيع الخطاب الذي يحتويه، فإن لم يتحقق زال كل أثر له.
ومن خطابات النوايا ما يتضمن التزاما قطعيا بعدم إجراء مفاوضات موازية – negocia tion parallele مع الغير خلال مدة محددة. وهذا النوع من الخطابات إذا كان لا يتضمن شيئا عن العقد النهائي، إلا أنه في حد ذاته ينطوي على التزام رضائي إنفرادي او تبادلي، يمكن ان يرتب مسؤولية من تحمل به إذا خالفه .
10. كيفية تلافي مشكلات تباين مضمون خطاب النوايا: وهكذا تتنوع صيغ خطابات النوايا، وبالتالي يصير من الصعب القول إن كل الخطابات تعتبر دعوى للدخول في مفاوضات مستقبلية حول إبرام أحد العقود الدولية، وهذا على خلاف ما ينبغي أن يكون.
وهذا التنوع والتباين في الصياغة، وبالتالي في مضمون الخطابات، يرجع في عمق أساسه، إلى أن من يقوم بصياغتها هم عادة المسؤولون القانونيين، كالمهندسين والمديرين، الذين لا يدركون المعاني الخفية والبعد القانوني الكامن وراء هذا اللفظ أو تلك العبارة. وهنا يحسن أن نسدي النصيحة للقائمين على شؤون المؤسسات والشركات بأن يراعوا تطعيم الوفد التفاوضي أو الهيئة التي تتولى مخاطبة الغير، بشأن عمليات العقود الدولية بعناصر قانونية مدربة لها سابق خبرة في التفاوض وصياغة المستندات والوثائق ذات الصلة بالعقود الدولية.
وعلى كل حال، فإن تحديد مقاصد وأهداف خطاب النوايا يمكن ان تعين على تحديد طبيعته كما نرى فيما يلي:
ثانيا: مقاصد خطاب النوايا وأنواعه:
11. مقاصد خطاب النوايا: لا خلاف في أن خطاب النوايا وثيقة هامة يبدأ بها، بحسب الأصل، أطراف العملية التعاقدية طريقهم، وبها يعطي من أصدره إشارة البدء في خوض غمار التحضير للمفاوضات التعاقدية، حيث يفصح عن رغبته وتوجهه نحو التعامل الجديد لانجاز العقد المزمع إبرامه. ومن هنا يمكن أن نرصد بعض الأهداف والمقاصد التي يرمي إليها خطاب النوايا في المعاملات الإقتصادية والتجارية الدولية، منها:
أولا: إعلان مبدئي للرغبة في الدخول في محادثات حول عملية تعاقدية، وليس ما يمنع هنا، من تضمين الخطاب بعض المسائل الخاصة بنوع العملية التعاقدية، من ناحية موضوع العقد، السعر او الثمن، التاريخ المرتقب لإبرامه، مكان تسليم محل العقد أو وقت إنجاز الأعمال المتفق عليها...
ثانيا: وضع الإطار المستقبلي المتعلق بتنظيم المفاوضات ذاتها، ومن ذلك تحديد وقت ومكان إفتتاح جلسات المفاوضات، من سيمثل الأطراف وعدد فريق التفاوض وتخصصاتهم، اللغة التي تستعمل في الحوارات والمناقشات، المدة التقريبية التي ستستغرقها المفاوضات، نفقات ومن سيتحملها .
ولا خلاف في أن هذا المقصد يعد جوهريا، حيث يعمل على الإقتصاد في الوقت، وعدم إضاعته في مسائل إجرائية لا تتصل بصميم ما ترمي إليه المفاوضات .
ثالثا: وضع الشروط العامة Les conditions generales للعقود المزمع إبرامها في المستقبل، وذلك في الفروض التي تكرر فيها المعاملات بين الطرفين، كما في حالات عقود التوريد والإئتمان وغيرها، بحيث تترسخ القواعد العامة لأي عقد يبرم مستقبلا بينهما، فلا تنصب المفاوضات الخاصة لكل عقد على حدة إلا على الشروط الخاصة والمسائل التفصيلية النوعية، دون الشروط العامة، هو ما يحقق للطرفين إقتصادا في الوقت والنفقات .
رابعا: إظهار النية الجادة في التعامل، والرغبة الحقيقية في التعاقد، وإرساء عوامل التعاون مع أطراف العملية في حالة الوصول إلى عقد نهائي . وبالتالي طمأنتهم، وتبديد عوامل الشك والخشية المتبادلة من عدم الوصول إلى إتفاق وانجاز الصفقة . بيد أن هذا المقصد الرابع، له أهمية في تفعيل إمكانية الوصول الى إتفاق مبدئي حول العقد النهائي ذلك أن الإقتناع الذي سيتسرب إلى نفس الطرف المفاوض سيدفعه إلى إتخاذ التدابير التحضيرية اللازمة كي يوقع العقد النهائي فور توافق الأطراف عليه، من ذلك الحصول على الموافقة المبدئية من الجهات الحكومية المختصة أو المؤسسات المصرفية لتمويل المشروع، أو ترتيب المتعاقدين من الباطن، أو الإتفاق مع الموردين للبدء في تصنيع او تصميم المعدات والآلات... ، وهذا المقصد لبعض خطابات النوايا يجعلها أقرب إلى إتفاقات الجنتلمان أو إرتباطات الشرف التي تظل مجرد حالة واقعية خارج المجال العقدي .
خامسا: غير أن ما سبق لا ينفي أن هناك من مقاصد خطابات النوايا ما يقتصر على مجرد طلب معلومات أو الرد على إستفسارات محددة بخصوص العملية التعاقدية، بحيث لا يخرج الأمر عن أن يكون مجرد وجود إهتمام بمشروع تلك العملية، دون أن يعبر عن أي نية للإلتزام بالدخول في المفاوضات التعاقدية.
وهذا المقصد الخامس، يتوافق مع المقاصد الأخرى، في أنها تشكل جميعها الملامح العامة لخطاب النوايا عموما، وجوهرها أن هذا الخطاب هو رسالة موجهة من طرف إلى طرف آخر، تنطوي على مقدمة ورؤوس موضوعات ستطرح مستقبلا للنقاش والتقاض حولها Heaads of agreement توطئة لإبرام العقد النهائي، وتلك الرسالة، أي خطاب النية، تكون مكتوبة عادة على دعامة ورقية، غير أنه مع تقدم وسائل الإتصال الحديثة فليس هناك ما يمنع من ان تتجسد بالطرق الإلكترونية الحديثة ، كالبريد الإلكتروني E-mail وغيره مما أتاحته شبكة المعلومات والإتصالات الدولية، الإنترنت .
ثالثا: أنواع خطابات النوايا:
من العرض السابق لغايات خطاب النوايا، وبالنظر الى مضمونه، كما يجسده الواقع العملي للمبادلات والأعمال الدولية، يمكن أن نميز بين عدة أنواع من خطابات النوايا:
النوع الأول، خطاب دعوة للتعاقد: وهو خطاب يتضمن إعراب محرره للطرف الآخر عن رغبته في التعامل معه، وإبرام عقد معين وفقا للأسس والعناصر المرفقة بالخطاب، ويدعوه لوضع إطار عملية التفاوض حولها، من ناحية وقت بدء المفاوضات، ومدتها، والدراسات التي سيقوم بها كل طرف حول مختلف الجوانب الفنية والمالية والتنفيذية للعملية المزمع الإرتباط بها ، والتأكيد على الإلتزام بالحفاظ على السرية الواجبة لما تتمخض عنه تلك الدراسات .
12. النوع الثاني، خطاب دعوة للبدء في مفاوضات: وهو خطاب يتضمن دعوة محرر الطرف الآخر للبدء في المفاوضات حول العقد المزمع إبرامه، مع التأكد على مواصلة التفاوض والتزام حسن النية في كل مرحلة . وما يوجبه الإلتزام بالأمانة وشرف التعامل، والإمتناع عن الغش والسلوك التدليسي سواء عند بداية المفاوضات او في خلالها . كالدخول في المفاوضات دون نية جادة في التعاقد ، طرح مقترحات ميئوس من قبولها، أو قطع المفاوضات برعونة ودون سبب معقول رغم انها شارفت على الإنتهاء وبعد تحديد وقت توقيع العقد.
13. النوع الثالث: خطاب الإتفاق المبدئي الحر: وهو الخطاب الذي يصدره محرره بعد أن تكون المفاوضات قد قطعت شوطا كبيرا، وتم التوصل إلى أمور وأشياء أساسية إرتضاها محرر الخطاب، غير انه يحرص على النص ، على أن ذلك غير ملزم للطرفين، إلا بعد توقيع العقد النهائي . وهذا الخطاب يتضمن عادة الشروط المشهورة Subjed to contract، ومقتضاه أن الإلتزام بالأمور والاشياء الأساسية التي إرتضاها محرر الخطاب معلق على النص عليه في العقد النهائي وبعد توقيعه من الطرفين . غير أن قيمة هذا الشرط تتحدد حسب القانون واجب التطبيق على خطاب مذكرة التفاهم، لا سيما إذا لاحظنا إختلاف مواقف القوانين بشأنه، كما سنرى لاحقا في شأن قضية Texaco - Pennzoil .
14. النوع الرابع: خطاب الإتفاق المبدئي التعاقدي: وهو الخطاب الذي يوجه محرره الى الطرف الآخر، خلال المفاوضات، ويثبت فيه إتفاق الطرفين على بعض الإلتزامات المحددة، خصوصا الإلتزام بالحفاظ على سرية المعلومات المتبادلة إثناء المفاوضات، وكذلك الإلتزام بعدم الدخول في مفاوضات موازية، وتلك الإلتزامات مستقلة عن تلك الواردة في العقد النهائي المزمع إبرامه.
وهذا النوع من الخطابات يقابل بكثرة في مجال مفاوضات نقل التكنولوجيا وحقوق المعرفة الفنية، ويلاحظ هنا وجود إتفاق تعاقدي حقيقي على تلك الإلتزامات، بحيث أن مخالفتها ترتب المسؤولية التعاقدية. وهذا ما صرحت به الوثائق الصادرة عن الأمم المتحدة المسماة: مرشد تحرير العقود الدولية للإستشارات الهندسية والمساعدة الفنية لعام 1983 (فقرة 124) ومرشد تحرير العقود الدولية بين مجموعة الشركات لإنجاز مشروع محدد (فقرة 18) ومرشد تحرير العقود الدولية الصناعي لعام 1976 (فقرة 13).
15. النوع الخامس: خطاب مشروع العقد النهائي: وهو الخطاب الذي يفيد أن مرحلة المفاوضات قد تمخضت عن تصور لمشروع بنود ونصوص العقد النهائي، غير أن التوقيع على ذلك العقد والبدء في تنفيذه معلق على إستيفاء بعض الشروط أو حدوث أمر معين.
وهذا ما يحدث عادة في مجال مفاوضات نقل التكنولوجيا، والتنقيب عن الثروات الطبيعة، فقد إستقر العمل على أن التوقيع على العقد وبدء تنفيذه لا يتم إلا بعد الحصول على التراخيص الخاصة بإستغلال براءة الإختراع أو المعرفة الفنية. والتراخيص الإدارية لمباشرة النشاط والدخول إلى الموقع، أو الحصول على تسهيل إئتماني أو قرض من إحدى المؤسسات المالية. ومهما يكن من أمر أنواع خطابات النوايا، فإن ما تثيره من مشكلات قانونية في العمل تبدو خطيرة في تحديد حقوق والتزامات أطراف التفاوض التعاقدي الدولي، وهذا ما يجعلنا نلقي الضوء على الوضع القانوني لها وقوتها الإلزامية.
المطلب الثاني
القيمة القانونية لخطاب النوايا
أولا: قيمة خطاب النوايا بين إرادة أطراف التفاوض والقانون واجب التطبيق:
16. تنازع القوانين في خطاب النوايا: أسلفنا بيان ماهية خطاب النوايا، وإنتهينا إلى أنه وثيقة أو مستند يحرره أحد الأطراف المعنية بعملية عقدية، لتحقيق غرض معين من تلك التي أشرانا إليها، وبإعتباره محررا ومستندا ينطوي على عمل إرادي، إنفرادي أساسا، وتبادلي ضمنيا بعد وصوله إلى الطرف الآخر، فهو تصرف قانوني act Juridique يبتغي ترتيب أثر معين .
ولما كان الأمر يتعلق في بحثنا بالمفاوضات في العقود الدولية، فإن مختلف المستندات والوثائق المتبادلة بين أطراف التفاوض المتواجدين عادة في دولة مختلفة، تثير مشكلة تنازع القوانين القيمة القانونية لتلك المستندات والمحررات، ومن بينها خطاب النوايا. ولما كان الأمر يتعلق بتصرف قانوني إرادي، فإن قاعدة الإسناد واجبة التطبيق لتحديد القانون المختص بحكم نظام خطاب النوايا، هي تلك الخاصة بالتصرفات القانونية الإرادية أو العقود، وهي المنصوص عليها في المادة 19/1 من القانون المدني المصري والتي ستعرض لشرحها لاحقا، والتي جوهرها خضوع العقود، والتصرفات الإرادية للقانون الذي يختاره الطرفان بإرادتهما الحرة.
ووفقا للنظرية العامة لتنازع القوانين في العقود، فإن القانون واجب التطبيق على خطاب النوايا، وهو قانون الإرادة، هو الذي سيحدد لنا القيمة القانونية له، ومدى قوته الإلزامية، والآثار القانونية المترتبة عليه. وهو ما سنتعرف عليه فيما بعد. غير أن مشكلة تنازع القوانين ستتقلص إلى حد بعيد لو حسم الأطراف بأنفسهم القوة والقيمة القانونية لخطاب النوايا. ولكن كيف؟.
17. التحديد الإرادي لقيمة خطاب النوايا: من ثوابت النظام القانوني للعقود، أن إرادة الطرفين تتمتع بسيادة Souverainete وإستقلال Autonomie فالسيادة تعني أن إرادة الطرفين هي المشرع لمختلف بنود ونصوص العقد حسبما تتلاقى مصالح الأطراف. وما يضعه هؤلاء يعد قواعد قانونية خاصة Lex private تشكل في مجموعها القانون التعاقدي Loi contractuelle الذي ينظم علاقات وروابط الأطراف، ويشبه القانون الصادر من البرلمان.
أما الإستقلال، فهو يعني انه في إعداد القواعد الإتفاقية النظامية لا يخضع المتعاقدان لغير ما تمليه عليهما المصالح والمنافع المشتركة، مع التحفظ الخاص بعدم الإرتباط بمقتضيات المصلحة العامة ومبادئ وقيم النظام العام. وكلا الوجهين يجسدهما المبدأ الذائع "سلطان الإرادة" الذي إعترف به المشرع الوضعي صراحة (م 147 مدني مصري و م 1134 مدني فرنسي) تحت مسمى العقد شريعة المتعاقدين، فالإتفاقات والعقود المبرمة بنحو قانون تعتبر قانون من أبرموها.
إذا كان الأمر كذلك، فإن إرادة محرر أو مصدر خطاب النوايا وسلوك الطرف الآخر يمكن أن يحسما مشكلة القيمة القانونية لخطاب النوايا، من ناحية قوته الإلزامية. فيستطيع الأطراف، لا سيما إرادة محرر أو مصدر الخطاب مع إقرار الطرف الموجه اليه، النص الصريح عند صياغة الخطاب، على أنه مجرد دعوة للتعاقد أو دعوة للتفاوض، وليس عقدا، يتضمن إيجابا Offre موجها للطرف الآخر الذي يقبله .
ويجب أن تخلو صياغة الخطاب من كل غموض أو عدم دقة، أو إستخدام الفاظ مطاطة ليس لها مفهوم قانوني محدد يمكن أن يدع مجالا للتأويلات والتفسيرات المتضاربة ليس فقط من جانب الطرفين، بل كذلك من جانب الجهة القضائية التي قد تنظر المسألة، عندما يدعي من وجه إليه الخطاب بأن الطرف الآخر قد أخل بالإلتزام تعاقدي أو إتفاقي ناشئ عن ذلك الخطاب، ويثبت أنه تم الإتفاق على نقاط ومسائل محددة من العقد النهائي وذلك خلال عملية التفاوض، ويطالب بترتب المسؤولية القانونية عن الإخلال بإلتزام عقدي. وعلى العكس مما سبق، يمكن للأطراف تقرير ان خطاب النوايا يتضمن اتفاقا على مسائل معينة، يعتبر بشأنها أنه قد أبرم عقدا، وبالتالي يكون للخطاب القيمة القانونية للعقد، بحيث تترتب مسؤولية من يخل بالتزاماته الناشئة عنه، من ذلك الإتفاق على متابعة التفاوض بحسن نية، أو الإتفاق على عنصر الثمن في العقد النهائي .
وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية عدم إفراط مدراء الشركات والمؤسسات في الإعتقاد بكفاءة الملحقين المهنيين لديهم، كالمهندسين ومسؤولي العلاقات الخارجية، في إعداد خطابات النوايا، وضرورة أن يعهدوا إلى القانونيين المختصين وذوي الخبرة في مجال التعامل الدولي في تحضير ومراجعة خطابات النوايا، مع الإستعانة بزملائهم المهنيين في القطاعات الهندسية أو التجارية، وذلك تلافيا لمشكلات تفسير محتويات خطاب النوايا، هذا لا سيما وأن مواقف القوانين الوضعية ليست واحدة في شأن القيمة القانونية لخطابات النوايا، على ما نرى فيما يلي:
ثانيا: القانون واجب التطبيق على خطاب النوايا وقيمته القانونية:
18. الجوانب الشكلية في خطاب النوايا: أسلفنا بيان أن خطاب النوايا هو تصرف قانوني صادر عمن يملكه. وهو تصرف قانوني إرادي acte volonatire. وككل تصرف قانوني لا بد أن يفرغ خطاب النوايا في شكل محرر مكتوب أو دعامة ورقية أو رقمية ، تثبت محتواه.
وفي مجال التعامل الدولي عن طريق العقود، يكون خطاب النوايا تصرفا قانونيا عابرا للحدود، ويتصل بالنظام القانوني لأكثر من دولة، وهو ما يقود بالضرورة إلى تنازع القوانين حول الشكل الذي ينبغي أن يفرغ فيه. وتخضع مسألة شكل خطاب النوايا للقاعدة العامة في حال تنازع القوانين في مسائل شكل عموما، وهي التي قرر خضوع الشكل لقانون المحل Locus regit actum فالخطاب الذي يحرر أو يعد في مصر يخضع في شكله إلى القانون المصري.
غير أنه بالنظر للطابع الإختياري Caractere facultaif لقاعدة خضوع الشكل لقانون المحل، وأعمالا لنص المادة 20 من القانون المدني المصري، فإن خطاب النوايا يعد صحيحا من حيث الشكل، إذا إستوفى الشكل الذي يقرره، فضلا عن قانون محل إعداده، القانون الذي يحكم موضوعه، أو قانون الموطن المشترك للطرفين مصدر الخطاب والموجه اليه أو قانون جنسيتهما المشتركة على ما سوف نوضح تفصيلا فيما بعد .
19. الجوانب الموضوعه في خطاب النوايا، قوته الإلزامية: إذا لم يحدد مصدر الخطاب ويبين حقيقة مضمونة، وما إذا كان يحتوي على تعهدات إتفاقية لها أثر ملزم binding effect يشكل الإخلال بها خروجا على التزامات تعاقدية ترتب المسؤولية القانونية، فإن القيمة القانونية لخطاب النوايا تخضع في تحديدها للقانون واجب التطبيق على التصرفات القانونية الإرادية. وهو القانون الذي يختاره أطراف التفاوض صراحة أو ضمنا، أو قانون محل إعداد وتحرير الخطاب، أو قانون الموطن المشترك (م 19/1 مدني).
وعلى ذلك إذا أشارت قاعدة الإسناد المشار إليها بإختصاص قانون دولة أجنبية، فإن هذا القانون هو الذي يحكم القيمة القانونية لخطاب النوايا. وتختلف القوانين الأجنبية في هذا الشأن، حيث لا يعترف، جانب منها، لخطاب النوايا بأي قوة إلزامية، أو طبيعية تعاقدية، وهذا على خلاف البعض الآخر . وإليك البيان.
20. الوضع في القانون الإنجليزي: يتجه الرأي إلى أنه ليس لخطاب النوايا، بحسب الأصل قيمة تعاقدية، وبالتالي ليس له قوة ملزمة Force contraignante بالنسبة لمصدره، فهو وعد ونية Intent ، أو تعهد شرف، أو إتفاق جنتلمان – Gentleman's agreement، لا يصلح في غير وجود إرادة صريحة لمصدره، أن يكون إتفاقا تعاقديا يرتب أثرا، ومن ثم لا يكون ملزما Non Binding . ويتأكد عدم إلزام خطاب النوايا وتجرده من كل قيمة قانونية إذا إنطوى على عبارة أن إحترام ما ورد بالخطاب والإلتزام به معلق على التوقيع على شروط العقد النهائي subject to contract clausos ، حتى ولو تضمن الخطاب، في ذات الوقت، النص على ضرورة تفاوض الأطراف بحسن نية Good faith negociation .
ويرجع كل ذلك أن عامل المخاطر والإحتمال هو الذي يحكم مصير المفاوضات التي قد تنتهي بالنجاح أو بالفشل، فإذا كان الأمر كذلك، فإن على كل طرف مفاوض أن يتحمل مخاطر المفاوضات، وقبل توقيع العقد النهائي، لا يرتب أي حق أو التزام لمن أصدره.
وعلى وجه التحديد نشير إلى أن القانون الإنجليزي لا يعير قيمة كبيرة لخطاب النوايا من ناحية الزاميته انطلاقا من مبدأ أكبر هو عدم التسليم بما يسمى بعقد التفاوض contract to negociate الذي يمكن ان ينشأ عنه التزام بالتفاوض، فهو عقد إحتمالي – aleatory contract يلحقة البطلان لسبب الشك الذي يلف عناصره وأركانه .
وقد جرى القضاء الإنجليزي على عدم الإعتراف بالمسؤولية قبل التعاقد وكل ما يدور أثناء المفاوضات وقبل التوصل إلى إتفاق حقيقي، وكل الوثائق، ومنها خطابات النوايا، تكون خارج دائرة القانون . ففي قضية تتلخص وقائعها في أن إحدى الشركات الهندسية قد أرسلت خطاب نوايا إلى شركة أخرى تخبرها برغبتها في التعاقد معها، وأخطرت ببدء الأعمال دون إنتظار. وعلى إثر الخلاف بين الطرفين، ورفع الأمر إلى القضاء، قررت المحكمة المختصة أنه لم ينشأ عن خطاب النوايا الصادر من الطرف الأول أي التزام تعاقدي، رغم بدء تنفيذ الأعمال من قبل الطرف الآخر .
21. الوضع في القانون الأمريكي: أما في القانون الأمريكي فيبدو إنه إذا كان يتفق مع القانون الإنجليزي من ناحية عدم الإعتراف لخطاب النوايا بقيمة الزامية، غير أنه لا مانع من الخروج على ذلك المبدأ حسب ظروف وملابسات كل حالة على حدة.
أولا: أنه بخصوص خطابات النوايا المتضمنة عبارة أن الإلتزام بما جاء بخطاب النوايا معلق على إعتماد وتوقيع شروط العقد النهائي subject to contract clauses فلا تكون مجردة من كل قيمة كما هو الحال في القانون الإنجليزي بل إنه يمكن إلزام مصدر الخطاب بما ورد فيه، إذا أثبت من وجه إليه أنه بالرغم من وجود تلك العبارة فإن الطرفين قد توصلا إلى إتفاق بخصوص بعض البنود والعناصر الجوهرية في العقد المزمع إبرامه، وأن التوقيع على هذا الأخير ليس سوى تأكيد لذلك الإتفاق، ومن ثم يكون مصدر الخطاب ملتزما بما تم الإتفاق عليه، كما جاء في خطاب النوايا، ويسأل عن الإخلال به حتى قبل توقيع العقد الأساسي .
ثانيا: أن للقاضي حرية تقرير قوة إلزام خطاب النوايا إعمالا لمبدأ Estoppel شهير في الفقه الإنجلو أمريكي، ومقتضاه أنه "لا يقبل من أحد قول يتنافى مع سابق مسلكه" ، وإعمالا للواجب العام بمراعاة حسن النية والتعامل بإنصاف بين طرفي التفاوض، وهو واجب تفرضه المادتان 203/1 من القانون التجاري الموحد والمادة 205 من تقنين العقود للولايات المتحدة. وهذا ما طبقه القضاء الأمريكي بالفعل في قضية Texaco inc. V. Pennzoil عام 1986 . وتتلخص وقائعها في أن شركة "بنزاويل" قد إتفقت مع المساهمين الرئيسيين في شركة GETTY موجب مذكرة إتفاق Memorandum of agreement على دخولها كشريك معهم، وقد أنطوت تلك المذكرة على شرط ضرورة إعتمادها من مجلس الإدارة حتى تصبح نافذة، وبعد أن تم إعتماد مذكرة التفاهم، تم الإعلان عن إبرام إتفاق مبدئي agreement in principale موضحا به أن نفاذه متوقف على توقيع العقد النهائي. غير أنه على إثر مفاوضات سريعة وسرية تم نشر إعلان عن أن شركة "جيتى" قد إشترتها شركة "تكساكو". وقد ترتب على ذلك أن قامت شركة "بنزاويل" بمحاولة التنفيذ العيني لمذكرة الإتفاق أمام محاكم ولاية دولار، غير أن الأمر رفع أمام محاكم ولاية تكساس على شركة تكساكو لمطالبتها بمبلغ سبعة مليارات من الدولارات كتعويض زيدت إلى 7 مليارات أخرى كجزء تعويضي Punitive damages لها عن تحريضها شركة "جيتي" على الخروج على تعهدها التعاقدي، لمخالفة ذلك لمبدأ حسن النية والتعامل بإنصاف ونزاهة.
ومن حيث أن البت في المسألة يتوقف على تحديد القيمة القانونية لمذكرة الإتفاق، فإن المحلفين وهيئة المحكمة قد انتهوا إلى صحة تلك المذكرة، وهي صورة من صور خطابات النوايا، والحكم على شركة تكساكو بدفع مبلغ عشرة مليارات دولار شاملة سبعة مليارات دولار كتعويض عن الضرر، وثلاثة مليارات كجزاء تعويضي تم تخفيضه في الإستئناف إلى مليار واحد. هذا عن النظم القانونية الإنجلو امريكية.
23. موقف بعض القوانين الجرمانية: أما القانون الألماني، فالأصل فيه أن خطاب النوايا غير ملزم، ولا تترتب عليه مسؤولية عقدية، على أن هذا لا يعني إعفاء أطراف التفاوض من الدخول فيها بحسن نية ومراعاة الإنصاف وإعتبارات العدالة في تعاملهم. وعلى ذلك يمكن ترتيب مسؤولية التعويض عن المفاوضات قبل التعاقدية على أساس الإخلال بإعتبارات حسن النية والثقة والامانة المتبادلة بين أطراف التفاوض، من ذلك أن يقطع أحد الأطراف المفاوضات فجأة ودون سبب مقبول، أو يتسبب عمدا في خلق إعتقاد وتوقع مشروع لدى الطرف الآخر بأن العقد النهائي على وشك الإبرام والتوقيع عليه رغم أنه كان يعلم أو كان من المفروض عليه أن يعلم إستحالة تحقيق تلك التوقعات .
وعلى ذلك يمكن القول، ومن خلال التطبيقات القضائية للمحاكم الألمانية، أن خطاب النوايا، وإعمالا لنظرية في تكوين العقد culpa in contrahendo التي أساسها حسن النية كما جاء في كتابات الفقيه الألماني إيرنج R.C. IHERING ، يمكن أن يرتب مسؤولية في حدود ما تم الإتفاق عليه في عدة حالات:
• الإخلال بالإلتزام بالمساهمة أو المشاركة بفعالية في التفاوض أو المساهمة في تكاليفه.
• الإخلال بالتزام بسرية المعلومات التي يكشف عنها في مرحلة التفاوض.
• إجراء مفاوضات موازية مع طرف ثالث.
ويقترب من القانون الألماني القانون النمساوي، حيث أنه إذا كان خطاب النوايا غير ملزم بحسب الأصل، إلا أنه يرتب مسؤولية التعويض إستنادا إلى نظرية "الخطأ في تكوين العقد" المشار اليها في عدة حالات منها.
• تعمد عدم كشف بعض مواصفات وجوهر موضوع العقد الذي يجري التفاوض حولة.
• الكشف عن الصعوبات والعقبات التي صادفت توقيع العقد.
• الإمتناع دون سبب معقول عن توقيع العقد بعد أن توفر الإعتقاد الحقيقي عند الطرف الآخر
بان العقد في سبيل إبرامه .
24. موقف القانونين الفرنسي والمصري: في القانون الفرنسي، وكذلك القانون المصري، فإنه ليس لخطاب النوايا قوة الزامية، أو طابع تعاقدي يمكن أن يرتب مسؤولية عقدية بالنسبة لمصدره أو الطرف الآخر الذي وجه إليه، وذلك إنطلاقا من مبدأ عام هو حرية المفاوضات حيث يظل لكل طرف فيها الحرية في مواصلة المفاوضات، غير أنه لا يجب عليه أنهاؤها إذا كانت قد شارفت على نهايتها وتوفر لدى الطرف الآخر توقع مشروع في قرب تمام الوصول إلى إتفاق نهائي. غير أن ليس هناك ما يمنع الأطراف من تفادي بعض النقاط الخاصة بالعقد النهائي ويرتضيها مصدر خطاب النوايا ومن وجه إليه، وهنا تترتب المسؤولية العقدية عند الإخلال بما تم الإتفاق عليه . وهذا التكييف التعاقدي لما ورد في خطاب النوايا، لا يقيد، مع ذلك، القاضي أو المحكم الذي يستطيع إسباغ الوصف الصحيح على مضمون الخطاب . طالما كان تكييفه قائما على أسباب موضوعية وسند حقيقية، كل ذلك تحت رقابة محكمة النقض في حالة عرض النزاع على المحاكم الوطنية.
وفي جميع الأحوال يتعين الفحص الموضوعي لمضمون خطاب النوايا، وكذلك البحث عن الإرادة الحقيقية لمصدر الخطاب ، وللطرف الآخر الذي تلقاه وفقا للأصول العامة في التفسير فتلك الإرادة، وإعمالا لمبدأ سلطان الإرادة، تستطيع إنشاء التزام تعاقدي والدخول في دائرة المسؤولية العقدية المنظمة قانونا، كما تستطيع أن تظل حرة طليقة لا تفرض التزاما على صاحبها . ومع ذلك يمكن ترتيب المسؤولية والتعويض عن الخطأ التقصيري إن توفرت شروطها، لا سيما الإخلال بالواجب الأساسي بمراعاة حسن النية في مرحلة المفاوضات، والإنحراف عن السلوك السوي المعتاد للشخص اليقظ إذا وجد في ذات الظروف .
وعلى كل حال، فإن تحديد القيمة القانونية لخطابات النوايا، وبحسبانها مستندات ووثائق يتم تحريرها وتبادلها قبيل وأثناء مرحلة المفاوضات في العقود الدولية، يمكن الكشف عنها من خلال بحث حقيقة ما يتم في تلك المفاوضات وهذا يقتضي التعريف على التنظيم القانوني لمفاوضات العقود الدولية، وهو ما نعالجة فيما يلي.
المبحث الثاني
تنظيم المفاوضات في العقد الدولي
25. تمهيـد: أضحت المفاوضات لازمة ضرورية تسبق إبرام العقد الدولي، لا سيما في ظل الوضع الحالي للمبادلات والمعاملات الدولية، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب:
أولها، موضوعي، يرجع إلى أن العقود الدولية المعاصرة ليست بالعقود البسيطة التي يتفق على عناصرها وتبرم في أول لقاء. فهي عقود مركبة ومعقدة فنيا، على ما أشرنا عند بحث خطابات النوايا.
ثانيها، شخصية، ترجع إلى أطراف تلك العقود، فغالبا ما يتنافس على الفوز بتلك العقود شركات عملاقة ذات نشاط دولي، ويلزم التعامل معها الوقوف على سوابق أعمالها، وخبراتها السابقة، ومنهجها في التعامل. كما أن الطرف الآخر، غالبا ما يكون كذلك من الدول النامية، التي تسعى إلى إقامة مشروعاتها وتحقيق أهدافها التنموية إجتماعيا وإقتصاديا وفق أفضل الشروط التي تتلاءم مع إمكانياتها المادية، وكل ذلك يستلزم الدخول مع مفاوضات شاقة وعسيرة حول ما تزمع إبرامه من عقود دولية . وتلعب إرادة الأطراف دورا لا يستهان به في تنظيم عملية التفاوض، خصوصا وأن النظم القانونية المختلفة تكاد تخلو من أي تنظيم قاعدي يمكن إتباعه، ومنها النظام القانوني المصري. وبتلك المثابة، يبدو مهماً إلقاء الضوء على أساسيات تنظيم المفاوضات في النظام القانوني الدولي، وهو ما نعرضه في أربعة مطالب على التوالي.
المطلب الأول
ماهية المفاوضات وضرورتها
أولا: تعريف المفاوضات
الوضع قديما والفراغ التشريعي: قد يزعم البعض أن المفاوضات في إبرام التصرفات القانونية فكرة قديمة، ترجع بجذورها إلى التاريخ الذي عرف فيه الإنسان الإلتقاء مع بني جنسه في الأسواق للتبادل، بل ومقايضة السلع والخدمات، حيث تجري بعض المساومات speculations والأخذ والعطاء والرفض والقبول حول أسعار السلعة أو الخدمة، حتى يلتقي الطرفان، في النهاية، على كلمة سواء, وتتم عملية المبادلة أو المقايضة. وتلك المساومات والحوارات هي نوع من المفاوضة التي تمهد لتلاقي الإرادات وترتيب الأثر المبتغى. وهذا الزعم يبدو مقبولا إلى حد ما، ذلك أن المعاملات والصفقات كانت بسيطة وإجراء مناقشة لبضع دقائق كافية لتسوية كل النقاط محل الخلاف بين الطرفين، وقد عضد هذا النظر إلى العقد على أنه تلاقي إرادتين، إيجاب يعقبه قبول، بعد محادثات وقتية سريعة.
ويبدو أن مشرعي بداية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين قد قنعوا بذلك الفكر المبسط لحالة المبادلات التعامل المالي بين الأفراد، ولذلك جاءت التقنيات المدنية بدءا من القانون المدني الفرنسي لعام 1804 وحتى القانون المدني المصري لعام 1949 خالية من أي إشارة إلى المفاوضات وقواعد تنظيمها. ولم ينتبه إلى بعض مشكلات المفاوضات، وإن كان على نحو مبتور، إلا جانب من القوانين الأوروبية، كالقانون المدني الإيطالي لعام 1942 الذي تكلم فقط عن ضرورة التزام حسن النية في مفاوضات العقود عموما (م 1337) والقانون المدني اليوناني لعام 1946 (م 197 و 198).
26. العقود الدولية الحديثة وفرض المفاوضات: غير انه مع تطور وسائل النقل والإتصالات والدخول في الصفقات التجارية الكبرى، أضحت الأفكار التقليدية للتفاوض والمساومة غير كافية لإنهاء تلك الصفقات، والإستجابة لحاجات ومعطيات الإنتاج الصناعي والتكنولوجي، حيث أن عقود تلك الصفقات تنطوي على جوانب كبيرة من المخاطر، ويترتب عليها إنتقال سلع وخدمات عبر الحدود تقدر بمليارات الدولارات. وهو ما يوجب إفساح الوقت أمام أطراف التعامل للدخول في لقاءات ومناقشات مكثفة حول الثمن أو الأسعار، ومواعيد التوريد، وكيفية التنفيذ، وقته ومكانه، وضماناته، وجزاء الإخلال بالإلتزامات التي ستنشأ، فضلا عن مناقشة الأعمال التحضيرية مثل الفحوص الفنية ودراسات الجدوى الإقتصادية، وإعداد خطط المشروع وتوفير وسائل تمويله والتأمين على عناصره . وكل هذا يقتضي جلوس أطراف التعامل سويا وتبادل الأفكار والمناقشات حتى تتم المعاملة المطروحة، أو تفشل ويذهب كل طرف إلى سبيله. ومما تقدم يظهر لنا أهمية الوقوف على ما هية المفاوضات، وهي ظاهرة عامة تقابل في ميدان العقود والعمل، والإدارة وغيرها .
27. تعريف المفاوضات: تلعب المفاوضات دورا وقائيا هاما في إبرام عقد إرتضاه أطرافه، وسينفذ كل منهم التزاماته بطريقة سلمية هادئة، وسيجنبهم مغبة الدخول في منازعات وولوج ساحات قضاء الدولة أو قضاء التحكيم.
ومن هنا نطرح السؤال: ما المراد بالمفاوضة أو المفاوضات؟
ذهب البعض إلى تعريف المفاوضة بأنها عملية تطرح فيها مقترحات او مشروعات صريحة لغرض التوصل لإتفاق بالتبادل أو المقايضة أو على أساس تحقيق مصلحة مشتركة عندما توجد المصالح المتفاوضة .
وجاء في الموسوعة الدولية للعلوم الإجتماعية أن المفاوضات هي شكل من أشكال التفاعل تحاول فيه الحكومات أو الأفراد أو المنظمات إدارة بعض مصالحهم المتصارعة، أو هو عملية صريحة تتعلق بمشروعات او مقترحات ومقترحات مضادة . وقيل إن التفاوض هو "التحاور والمناقشة للوصول إلى إتفاق مشترك بين طرفين للحصول على حل متفق عليه للحفاظ على مصالح الأطراف المتفاوضة وحل ما بينها من مشكلات أو تقريب وجهات نظرها بأسلوب حضاري .
ومن التعريفات المتداولة أيضا، نذكر ما قرره البعض من أن التفاوض هو تبادل لوجهات النظر وتسوية الإختلافات والبحث عن مناطق محل اتفاق مشترك والمصلحة المتبادلة والوصول لبعض أشكال الإتفاق شفويا أو تحريريا، رسميا أو غير رسمي. وجاء في قاموس webster's أن المفاوضات عملية مواجهة أو تساوم أو مناقشة غرضها الوصول الى إتفاق .
28. تعريفنا للمفاوضات: ومهما يكن من أمر هذه التعريفات، فإنه يمكن القول إن المفاوضة هي التحاور والمناقشة وتبادل الأفكار والآراء والمساومة بالتفاعل بين الأطراف من أجل الوصول الى إتفاق معين حول مصلحة أو حل لمشكلة ما: إقتصادية، قانونية، تجارية، سياسية. من هذا التعريف يتبين أن هناك عدة عناصر يجب مراعتها للوصول إلى ماهية وجوهر المفاوضة.
أولا: وجود مشكلة أو مصالح متعارضة بين طرفي العملية التفاوضية، وفي مجال العقود الدولية يتمثل ذلك في محاولة حسم مشكلة السعر أو الثمن، أو إعادة التوازن إلى العملية التعاقدية عندما يطرأ تغيير في الظروف , يقلب الموازين والحسابات الإقتصادية إضرارا بمركز أحد طرفي التفاوض، أو أي أمر آخر....
ثانيا: التفاعل INTERACTIVITE والاتصال بين طرفي التفاوض، وذلك بالالتقاء الشخصي في موعد ومكان يتفق عليه، والدخول في محاورات ومناقشات ومساومات شخصية وتبادل المقترحات والأفكار حول المشكلة المطروحة.
ثالثا: القصد إلى الوصول إلى اتفاق أو حل للمسألة المطروحة، وهذا أمر بديهي، فالتفاوض الذي يجمع بين أطراف لا أهداف لهم، هو عبث واضاعة للوقت والنفقات. فلا خلاف في أن وجود هدف معين يحدده كل طرف هو الحافز الدافع الى الدخول في عملية التفاوض.
وعادة يتمثل ذلك الهدف في مصلحة مشتركة بين طرفي التفاوض . وهي ليست مصلحة إنفرادية لطرف دون طرف، وإلا ما إرتضى هذا الأخير الجلوس على مائدة المفاوضات.
غير أنه إذا كان للمفاوضات قصد أو هدف، هو تحقيق المصلحة المشتركة لطرفيها، إلا أنه لا ينبغي الوصول إليه بأي ثمن. فقد يفشل الطرفان في الوصول إلى إتفاق أو تسوية المشكلة القائمة بينهما. فليس بلازم أن تؤول نهاية المفاوضات إلى النجاح وتسفر عن إتفاق. فهناك العديد من الظروف والعوامل التي تتحكم في سير العملية التفاوضية، وتجعل نتائجها الإيجابية او السلبية إحتمالية الى حد بعيد . فكفاءة المفاوض وخبرته، والقوه الإقتصادية لكل طرف، وحاجته إلى الدخول في هذا النوع من التعامل أو ذاك، نوع الإستراتيجية المتبعة في المفاوضات والتكتيك المستخدم لتنفيذها، وطبيعة العملية او المشكلة المطروحة على بساط التفاوض.... كلها عوامل تؤثر على النتيجة النهائية للمفاوضات .
وعلى هذا لا يبدو سليما القول إن المفاوضات ليست غير تبادل للتنازلات بين طرفيها ، لان مقتضى ذلك أن هناك نتيجة الوصول إليها بأي ثمن، وهو أمر قد يصيب بأبلغ الضرر المتعاملين في مجال التجارة الدولية، لأن تلك الأخيرة تقوم على حسابات وتوقعات وحدود لا يمكن النزول عنها. وسوف نزيد ذلك إيضاحا عند عرض ضرورة وإستراتيجيات التفاوض.
ثانيا: ضرورة وأهمية المفاوضات:
30. الضرورات المنطقية: المتأمل في فلسفة المفاوضات يدرك أن هناك عدة ضرورات منطقية تفرض اللجوء إليها. من ناحية، التواصل والتفاعل الإنساني، ومقتضاه أن الإنسان، منذ وجد لا يستطيع أن يحيا بمفرده منكفئا على نفسه قادرا على إشباع حاجاته اليومية إكتفاء بمساعيه وموارده الذاتية، فهو لا بد داخل مع الغير من بني جنسه في معامل
الدكتور/ أحمد عبد الكريم سلامة*
إستهـلال
1. العقد قانون الأطراف التعاقدي: إستقر الفكر القانوني على أن العقد، عموما، هو توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني معين. وهذا الأثر القانوني effet Juridique هو جوهر أو ثمرة التراضي أو الإتفاق بين أطراف العقد، وهو لا يكون كذلك إلا بمقتضى ما وضعه هؤلاء من محددات وضوابط، التي من غيرها لا يمكن الركون إليه، ويظل هملا تتلاطمه أهواء من تصوروه.
خذ مثلا، لو باع شخص سلعة لآخر، فإن التراضي وتبادل الإرادات، أي الإيجاب والقبول بين الطرفين، يرتب أثرا هو نقل ملكية وحيازة المبيع من البائع إلى المشتري، وهذا الأثر لا يتصور بغير أن يكون التراضي سليما صادرا عن شخص ذي أهلية للتصرف، ويتم الإفتاق حول ماهية المبيع ومواصفاته، ووقت ومكان تسليمه، وثمنه، ووقت ومكان وكيفية الوفاء به، وحكم تأخير الوفاء....
إن ما يتصوره أطراف العقد ويضعوه، حول كل تلك المسائل، يعتبر في الواقع قواعد سلوكية إتفاقية تضبط علاقاتهم ، وهي قواعد قانونية خاصة Lex privata تشبه القواعد القانونية الصادرة من السلطة التشريعية المختصة .
2. القانون التعاقدي له سمات القانون الرسمي: وليس في ذلك مغالاة، فتلك القواعد القانونية الإتفاقية تحقق الهدفين الذين يطمح إليهما أي تشريع وضعي رسمي: العدالة والأمان.
من ناحية العدالة la justice، فقد قيل إن كل ما هو تعاقدي يكون عادلا فالشخص لا يرتضي إلا ما يكون في صالحه، أي ما يكون عادلا، وكما يقول KANT "عندما يقرر أحد شيئا في مواجهة آخر، فمن الممكن أن ينطوي على بعض عدم العدالة، ولكن عدم العدالة يكون مستحيلا حينما يقرر الشخص لنفسه" . كما هو الحال في العقد، فإذا كان العقد يخلق قواعد سلوكية قانونية، فإن تلك القواعد هي الأكثر عدالة، لأنها القواعد المتأيتة من الإرادة والمقبولة من صانعها .
ومن ناحية الأمان La Securte، فإن القواعد المنظمة للعلاقة العقدية لا تتأتى من مصدر خارجي، بل المتعاقدون هم صناعها، ليست غريبة عنهم، وتتوافق مع تطلعاتهم، وتطبيقها، أو الدعوة إلى الإلتزام بها، لا يشكل إخلالا بتوقعات من تخاطبه. فكما أن القاعدة القانونية العادية هي نتاج إرادة المجتمع المجسدة في السلطة التشريعية، فهي تتأتى من داخل المجتمع .
فإن القاعدة الإتفاقية نتاج إرادة المتعاقدين، فهي تتأتى من داخل هؤلاء، وبالتالي فهي لا تخل بتوقعاتهم، بل تعمل على إحترام حقوقهم المتولدة من العقد، وتحقيق التعاون بينهم.
وليس غريبا هنا أن يعترف المشرع الوضعي ذاته بأن العقد هو قانون أو شريعة المتعاقدين. وهو قانون خاص تتغيا قواعده الغايتان المشار إليهما.
3. العقد الدولي وإعداد القانون التعاقدي الدولي: ومع التحفظ الواجب بخصوص فكر المدرسة الإجتماعية، والضوابط الواجبة على مبدأ سلطان الإرادة ، والعقد شريعة المتعاقدين حماية للطرف الضعيف في العقد عموما، فإن الفقه ما زال يردد، بخصوص العقود الدولية مبدأ السيادة القاعدية Souverainete normative للمتعاقدين، أي مقدرتهم على خلق قواعد اتفاقية خاصة، تضبط وتحكم علاقاتهم التعاقدية . فالعقد خلاق لقواعد قانونية، ومصدر مستقل للحقوق والإلتزامات.
ويصل الفقه المشار اليه إلى القول إن العقد الدولي يعتبر "القانون التعاقدي الدولي" أو "القانون الدولي للأطراف المتعاقدة" ، النابع من الحرية الدولية للإتفاقات ، أو الحرية التعاقدية الدولية .
ومبدأ الحرية التعاقدية الدولية قد إعترف به وأقره المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص UNIDROIT في مجموعة المبادئ المتعلقة بعقود التجارة الدولية التي تبناها عام 1994، حيث نصت المادة 1/1 على أن "يكون الأطراف أحرارا في إبرام العقد وفي تحديد مضمونه" .
إذا كان الأمر كذلك، وحتى تأتي القواعد القانونية الإتفاقية، التي يتكون منها هذا القانون التعاقدي Iex contractualis الدولي مناسبة وكاملة، وحتى يمكنها تحييد وإقصاء القوانين الوطنية، التي أضحت لا تتلاءم مع خصوصيات المعاملات التجارية الدولية ، فإن على الأطراف، التي ترغب في إبرام العقود الدولية، أن تبذل قصارى جهدها في إعداد عقد جيد، محبوك الصياغة القانونية. وهذا يقتضي الدخول مبكرا في مفاوضات ومناقشات تمهد لإبرام العقد النهائي، وكذلك بذل الجهد في تحرير وصياغة العقد الدولي، حتى يكون كافيا بذاته مغنيا عن اللجوء إلى القوانين الوطنية.
4. تقسيم: تعتبر المفاوضات Negociations – Pourparlers من المقدمات الأولية اللازمة، على الأقل في ظل الأوضاع المعاصرة للمعاملات والمبادلات الإقتصادية للسلع والخدمات عبر الحدود، لإبرام العقود الدولية، فتلك العقود تستتبع، بالضرورة إنتقال القيم الإقتصادية بين الدول المختلفة، وتتأثر بها، من ثم، المصالح الحيوية للأفراد أطراف التعامل الدولي، بل وتلك الدول ذاتها.
وقد أرسي الواقع العملي، وممارسات رجال الأعمال وشركاء العمليات التجارية الدولية، بعض القواعد والتطبيقات التي تحكم بدء وسير وإنتهاء مفاوضات العقود الدولية، وهي قواعد تبدو أساسية في ظل فراغ تشريعي حقيقي في مختلف التشريعات المقارنة.
والتعرف على تلك القواعد المنظمة لمفاوضات العقودالدولية يستلزم منا أن نعرض في:
مبحث أول: الأعداد للمفاوضات وخطابات النوايا.
مبحث ثان: تنظيم مفاوضات العقد الدولي.
المبحث الأول
الإعداد للمفاوضات وخطابات النوايا
5. تقديم: إن الإعداد للمفاوضات، التي تسبق إبرام العقد الدولي، هو من العمليات الشاقة التي تستغرق وقتا وجهدا ونفقات، بل يمكن القول إن المفاوضات التي يعد لها جيدا تنتهي، غالبا، بإبرام عقد ناجح، يتم الإتفاق عليه، وتنفيذه، بطريقة سليمة هادئة ويحقق كل طرف ما يبتغيه من ورائه.
ومن بين ما يتم الإعداد له للمفاوضات التعاقدية، الإتصال بين الأطراف ودعوة أحدهم الآخر للتحاور وتبادل الآراء حول العملية التعاقدية المزمع الدخول فيها بينهم، ومن بين أهم وسائل الإتصال ما يسمى بخطابات النوايا، والتي نعرض لها فيما يلي في مطلبين.
المطلب الأول
ماهية خطابات النوايا
أولا: تعريف خطاب النوايا وغاياته:
6. خطابات النوايا والعقود الدولية المعاصرة: المتأمل في العقود الدولية المعاصرة، كعقود إنشاء البنية التحتية، إقامة المطارات ومحطات الطاقة بنظام الـ B.O.T ، وعقود إنشاء المصانع بنظام المفتاح في اليد cle en main أو الإنتاج في اليد Produit en main وعقود نقل التكنولوجيا وعقود خدمات المعلومات contral informatique وعقود الإئتمان التأجيري الدولي ...... .
يدرك أنها، على خلاف العقود الدولية اليومية البسيطة كالبيع أو النقل أو غيرها ، تنطوي على العديد من المسائل الفنية الدقيقة، التي لا يمكن حسمها في جلسة أو جلستين، بل يستلزم الأمر إجتياز مراحل متعاقبة ومستمرة صوب العقد النهائي ، يتم فيها إتفاقيات تمهيدية Preliminary agreemenis تحرر في مستندات تحضيرية documents preparatoires تبادل فيها الأطراف الرؤية والمفاهيم حول أمور تتصل بالمفاوضات حول العقد النهائي، ولعل من أهمها ما يسمى بخطاب النوايا أو التفاهم .
7. تعريف خطاب النية: وخطاب النية Lettre dintention ، أو خطاب التفاهم Letter of understanding ، أو مذكرة التفاهم Memorandum of understanding أو مذكرة أساسيات الإتفاق heads of agreement ليس من السهل وضع تعريف محدد له، وبالتالي تحديد وضعه القانوني، وذلك لأن الواقع العملي يدل على أن لخطابات النوايا أشكالا مختلفة، وتتناول موضوعات شتى يتعذر الربط بينها لإستخلاص محور تتمركز حوله كما سنتبين من خلال عرض غايات وأهداف تلك الخطابات. ومع ذلك حاول البعض تقديم تعريف له، بالقول إنه "وثيقة مكتوبة قبل العقد النهائي تعكس الإتفاقات أو الفهم المبدئي لطرف أو أكثر من أطراف التعاقد التجاري بغية الدخول في عقد مستقبلي" .
غير أننا نرى أن خطاب النوايا يجب أن يعرف بما يتفق مع مسماه، فنقول إنه مستند مكتوب يوجه من طرف يرغب في التعاقد على أمر معين إلى الطرف الآخر يعرب فيه عن رغبته تلك، ويطرح فيه الخطوط العريضة للعقد المستقبل المزمع إبرامه ويدعوه إلى التفاوض والدخول في محادثات حوله .
ونعتقد أن أي مستند لا ينطوي على إبداء الرغبة في التعاقد، ولا يتضمن بيانا للنقاط الرئيسة والخطوط العريضة للعملية التعاقدية المستقبلية، ولا يشتمل على دعوة الطرف الآخر للإلتفاء والجلوس سويا للتفاوض حولها، لا يعتبر ذلك المستند خطابا للنوايا، بل يعد مستندا آخر يجب ان يسمى بإسمه.
8. الأصل أن خطاب النوايا غير ملزم لمن أصدره: الملاحظ أن لفظ "نيه" – Intent – intention يفيد أمرا مستقبليا لم يطرح بعد أن يكشف عنه، وهو لفظ لا يفيد الإلزام ، وغالبا ما يقصد محرر خطابات النوايا عدم الإلتزام بأي شيء لمجرد صدروها عنهم ، لا سيما وأن مقصدهم هو رسم الخطوط العامة ووضع الإطار المبدئي للمفاوضات المستقبلية تمهيدا لإبرام العقد النهائي.
وحتى يظل خطاب النوايا خارج دائرة الإلزام فيجب أن يراعى في صياغته عدة أمور: منها الحرص على عدم إستخدام أي جملة تعبيرية أو لفظ يفيد الإلتزام، مثل يقبل، يرتضي، يوافق، ويحسن اللجوء الى الفاظ أخرى مثل، يقدر الطرف او يبدو ملائما او من المستحب أن.... ومنها النص على حرية كل طرف في إجراء مفاوضات موازية مع طرف آخر، أي عدم القبول بشرط أو بتعهد التعامل القصري أو المانع Engagement d'exclusivite . وحبذا لو تم تضمين الخطاب عبارة تفيد أنه ليس له أية قوة ملزمة No binding . وعلى كل حال، فإن البادي في الواقع العملي، أن جانبا هاما من خطابات النوايا لا يكون كذلك، ولا يدل على أنه دعوة لبدء مرحلة المفاوضات الموصلة إلى إتفاق أو عدمه.
9. إمكانية إرتضاء الطابع الملزم لخطاب النوايا: من خطابات النوايا ما يتضمن اتفاقا بين الأطراف، حيث تدل عبارات الخطاب عن إبرام العقد فعلا، وذلك إذا ما كان يعبر عن قبول أحد الطرفين لإيجاب وعرض الطرف الآخر، من ذلك مثلا تأكيد الخطاب على أنه "نتشرف بإبلاغكم أننا قد علمنا مضمون العرض المقدم منكم بخصوص عقد إنشاء وتوريد وتركيب وتجربه مصنع.... و وافقنا على شروطه، وإننا نقبل ذلك العرض.... مع الرجاء إبلاغنا خلال مدة عشرة أيام بخطاب مسجل بعلم وصول موقع ومعتمد تاريخه، بالرد على قبولنا لعرضكم المشار اليه.
ومن خطابات النوايا ما يتضمن الإعلان عن الإلتزام الفعلي بما تم التفاوض عليه، ويحدد الصيغة النهائية المقترحة للعقد الأصلي. من خطابات النوايا ما يعتبر فعلا عقدا غير أنه معلق على شرط أو أكثر، كموافقة السلطة المختصة، مجلس الإدارة أو الوزير المختص، أو الحصول على إئتمان مصرفي، أو ترخيص جمركي.... وهنا إذا تحقق الشرط أنتج العقد آثاره بأثر رجعي من يوم توقيع الخطاب الذي يحتويه، فإن لم يتحقق زال كل أثر له.
ومن خطابات النوايا ما يتضمن التزاما قطعيا بعدم إجراء مفاوضات موازية – negocia tion parallele مع الغير خلال مدة محددة. وهذا النوع من الخطابات إذا كان لا يتضمن شيئا عن العقد النهائي، إلا أنه في حد ذاته ينطوي على التزام رضائي إنفرادي او تبادلي، يمكن ان يرتب مسؤولية من تحمل به إذا خالفه .
10. كيفية تلافي مشكلات تباين مضمون خطاب النوايا: وهكذا تتنوع صيغ خطابات النوايا، وبالتالي يصير من الصعب القول إن كل الخطابات تعتبر دعوى للدخول في مفاوضات مستقبلية حول إبرام أحد العقود الدولية، وهذا على خلاف ما ينبغي أن يكون.
وهذا التنوع والتباين في الصياغة، وبالتالي في مضمون الخطابات، يرجع في عمق أساسه، إلى أن من يقوم بصياغتها هم عادة المسؤولون القانونيين، كالمهندسين والمديرين، الذين لا يدركون المعاني الخفية والبعد القانوني الكامن وراء هذا اللفظ أو تلك العبارة. وهنا يحسن أن نسدي النصيحة للقائمين على شؤون المؤسسات والشركات بأن يراعوا تطعيم الوفد التفاوضي أو الهيئة التي تتولى مخاطبة الغير، بشأن عمليات العقود الدولية بعناصر قانونية مدربة لها سابق خبرة في التفاوض وصياغة المستندات والوثائق ذات الصلة بالعقود الدولية.
وعلى كل حال، فإن تحديد مقاصد وأهداف خطاب النوايا يمكن ان تعين على تحديد طبيعته كما نرى فيما يلي:
ثانيا: مقاصد خطاب النوايا وأنواعه:
11. مقاصد خطاب النوايا: لا خلاف في أن خطاب النوايا وثيقة هامة يبدأ بها، بحسب الأصل، أطراف العملية التعاقدية طريقهم، وبها يعطي من أصدره إشارة البدء في خوض غمار التحضير للمفاوضات التعاقدية، حيث يفصح عن رغبته وتوجهه نحو التعامل الجديد لانجاز العقد المزمع إبرامه. ومن هنا يمكن أن نرصد بعض الأهداف والمقاصد التي يرمي إليها خطاب النوايا في المعاملات الإقتصادية والتجارية الدولية، منها:
أولا: إعلان مبدئي للرغبة في الدخول في محادثات حول عملية تعاقدية، وليس ما يمنع هنا، من تضمين الخطاب بعض المسائل الخاصة بنوع العملية التعاقدية، من ناحية موضوع العقد، السعر او الثمن، التاريخ المرتقب لإبرامه، مكان تسليم محل العقد أو وقت إنجاز الأعمال المتفق عليها...
ثانيا: وضع الإطار المستقبلي المتعلق بتنظيم المفاوضات ذاتها، ومن ذلك تحديد وقت ومكان إفتتاح جلسات المفاوضات، من سيمثل الأطراف وعدد فريق التفاوض وتخصصاتهم، اللغة التي تستعمل في الحوارات والمناقشات، المدة التقريبية التي ستستغرقها المفاوضات، نفقات ومن سيتحملها .
ولا خلاف في أن هذا المقصد يعد جوهريا، حيث يعمل على الإقتصاد في الوقت، وعدم إضاعته في مسائل إجرائية لا تتصل بصميم ما ترمي إليه المفاوضات .
ثالثا: وضع الشروط العامة Les conditions generales للعقود المزمع إبرامها في المستقبل، وذلك في الفروض التي تكرر فيها المعاملات بين الطرفين، كما في حالات عقود التوريد والإئتمان وغيرها، بحيث تترسخ القواعد العامة لأي عقد يبرم مستقبلا بينهما، فلا تنصب المفاوضات الخاصة لكل عقد على حدة إلا على الشروط الخاصة والمسائل التفصيلية النوعية، دون الشروط العامة، هو ما يحقق للطرفين إقتصادا في الوقت والنفقات .
رابعا: إظهار النية الجادة في التعامل، والرغبة الحقيقية في التعاقد، وإرساء عوامل التعاون مع أطراف العملية في حالة الوصول إلى عقد نهائي . وبالتالي طمأنتهم، وتبديد عوامل الشك والخشية المتبادلة من عدم الوصول إلى إتفاق وانجاز الصفقة . بيد أن هذا المقصد الرابع، له أهمية في تفعيل إمكانية الوصول الى إتفاق مبدئي حول العقد النهائي ذلك أن الإقتناع الذي سيتسرب إلى نفس الطرف المفاوض سيدفعه إلى إتخاذ التدابير التحضيرية اللازمة كي يوقع العقد النهائي فور توافق الأطراف عليه، من ذلك الحصول على الموافقة المبدئية من الجهات الحكومية المختصة أو المؤسسات المصرفية لتمويل المشروع، أو ترتيب المتعاقدين من الباطن، أو الإتفاق مع الموردين للبدء في تصنيع او تصميم المعدات والآلات... ، وهذا المقصد لبعض خطابات النوايا يجعلها أقرب إلى إتفاقات الجنتلمان أو إرتباطات الشرف التي تظل مجرد حالة واقعية خارج المجال العقدي .
خامسا: غير أن ما سبق لا ينفي أن هناك من مقاصد خطابات النوايا ما يقتصر على مجرد طلب معلومات أو الرد على إستفسارات محددة بخصوص العملية التعاقدية، بحيث لا يخرج الأمر عن أن يكون مجرد وجود إهتمام بمشروع تلك العملية، دون أن يعبر عن أي نية للإلتزام بالدخول في المفاوضات التعاقدية.
وهذا المقصد الخامس، يتوافق مع المقاصد الأخرى، في أنها تشكل جميعها الملامح العامة لخطاب النوايا عموما، وجوهرها أن هذا الخطاب هو رسالة موجهة من طرف إلى طرف آخر، تنطوي على مقدمة ورؤوس موضوعات ستطرح مستقبلا للنقاش والتقاض حولها Heaads of agreement توطئة لإبرام العقد النهائي، وتلك الرسالة، أي خطاب النية، تكون مكتوبة عادة على دعامة ورقية، غير أنه مع تقدم وسائل الإتصال الحديثة فليس هناك ما يمنع من ان تتجسد بالطرق الإلكترونية الحديثة ، كالبريد الإلكتروني E-mail وغيره مما أتاحته شبكة المعلومات والإتصالات الدولية، الإنترنت .
ثالثا: أنواع خطابات النوايا:
من العرض السابق لغايات خطاب النوايا، وبالنظر الى مضمونه، كما يجسده الواقع العملي للمبادلات والأعمال الدولية، يمكن أن نميز بين عدة أنواع من خطابات النوايا:
النوع الأول، خطاب دعوة للتعاقد: وهو خطاب يتضمن إعراب محرره للطرف الآخر عن رغبته في التعامل معه، وإبرام عقد معين وفقا للأسس والعناصر المرفقة بالخطاب، ويدعوه لوضع إطار عملية التفاوض حولها، من ناحية وقت بدء المفاوضات، ومدتها، والدراسات التي سيقوم بها كل طرف حول مختلف الجوانب الفنية والمالية والتنفيذية للعملية المزمع الإرتباط بها ، والتأكيد على الإلتزام بالحفاظ على السرية الواجبة لما تتمخض عنه تلك الدراسات .
12. النوع الثاني، خطاب دعوة للبدء في مفاوضات: وهو خطاب يتضمن دعوة محرر الطرف الآخر للبدء في المفاوضات حول العقد المزمع إبرامه، مع التأكد على مواصلة التفاوض والتزام حسن النية في كل مرحلة . وما يوجبه الإلتزام بالأمانة وشرف التعامل، والإمتناع عن الغش والسلوك التدليسي سواء عند بداية المفاوضات او في خلالها . كالدخول في المفاوضات دون نية جادة في التعاقد ، طرح مقترحات ميئوس من قبولها، أو قطع المفاوضات برعونة ودون سبب معقول رغم انها شارفت على الإنتهاء وبعد تحديد وقت توقيع العقد.
13. النوع الثالث: خطاب الإتفاق المبدئي الحر: وهو الخطاب الذي يصدره محرره بعد أن تكون المفاوضات قد قطعت شوطا كبيرا، وتم التوصل إلى أمور وأشياء أساسية إرتضاها محرر الخطاب، غير انه يحرص على النص ، على أن ذلك غير ملزم للطرفين، إلا بعد توقيع العقد النهائي . وهذا الخطاب يتضمن عادة الشروط المشهورة Subjed to contract، ومقتضاه أن الإلتزام بالأمور والاشياء الأساسية التي إرتضاها محرر الخطاب معلق على النص عليه في العقد النهائي وبعد توقيعه من الطرفين . غير أن قيمة هذا الشرط تتحدد حسب القانون واجب التطبيق على خطاب مذكرة التفاهم، لا سيما إذا لاحظنا إختلاف مواقف القوانين بشأنه، كما سنرى لاحقا في شأن قضية Texaco - Pennzoil .
14. النوع الرابع: خطاب الإتفاق المبدئي التعاقدي: وهو الخطاب الذي يوجه محرره الى الطرف الآخر، خلال المفاوضات، ويثبت فيه إتفاق الطرفين على بعض الإلتزامات المحددة، خصوصا الإلتزام بالحفاظ على سرية المعلومات المتبادلة إثناء المفاوضات، وكذلك الإلتزام بعدم الدخول في مفاوضات موازية، وتلك الإلتزامات مستقلة عن تلك الواردة في العقد النهائي المزمع إبرامه.
وهذا النوع من الخطابات يقابل بكثرة في مجال مفاوضات نقل التكنولوجيا وحقوق المعرفة الفنية، ويلاحظ هنا وجود إتفاق تعاقدي حقيقي على تلك الإلتزامات، بحيث أن مخالفتها ترتب المسؤولية التعاقدية. وهذا ما صرحت به الوثائق الصادرة عن الأمم المتحدة المسماة: مرشد تحرير العقود الدولية للإستشارات الهندسية والمساعدة الفنية لعام 1983 (فقرة 124) ومرشد تحرير العقود الدولية بين مجموعة الشركات لإنجاز مشروع محدد (فقرة 18) ومرشد تحرير العقود الدولية الصناعي لعام 1976 (فقرة 13).
15. النوع الخامس: خطاب مشروع العقد النهائي: وهو الخطاب الذي يفيد أن مرحلة المفاوضات قد تمخضت عن تصور لمشروع بنود ونصوص العقد النهائي، غير أن التوقيع على ذلك العقد والبدء في تنفيذه معلق على إستيفاء بعض الشروط أو حدوث أمر معين.
وهذا ما يحدث عادة في مجال مفاوضات نقل التكنولوجيا، والتنقيب عن الثروات الطبيعة، فقد إستقر العمل على أن التوقيع على العقد وبدء تنفيذه لا يتم إلا بعد الحصول على التراخيص الخاصة بإستغلال براءة الإختراع أو المعرفة الفنية. والتراخيص الإدارية لمباشرة النشاط والدخول إلى الموقع، أو الحصول على تسهيل إئتماني أو قرض من إحدى المؤسسات المالية. ومهما يكن من أمر أنواع خطابات النوايا، فإن ما تثيره من مشكلات قانونية في العمل تبدو خطيرة في تحديد حقوق والتزامات أطراف التفاوض التعاقدي الدولي، وهذا ما يجعلنا نلقي الضوء على الوضع القانوني لها وقوتها الإلزامية.
المطلب الثاني
القيمة القانونية لخطاب النوايا
أولا: قيمة خطاب النوايا بين إرادة أطراف التفاوض والقانون واجب التطبيق:
16. تنازع القوانين في خطاب النوايا: أسلفنا بيان ماهية خطاب النوايا، وإنتهينا إلى أنه وثيقة أو مستند يحرره أحد الأطراف المعنية بعملية عقدية، لتحقيق غرض معين من تلك التي أشرانا إليها، وبإعتباره محررا ومستندا ينطوي على عمل إرادي، إنفرادي أساسا، وتبادلي ضمنيا بعد وصوله إلى الطرف الآخر، فهو تصرف قانوني act Juridique يبتغي ترتيب أثر معين .
ولما كان الأمر يتعلق في بحثنا بالمفاوضات في العقود الدولية، فإن مختلف المستندات والوثائق المتبادلة بين أطراف التفاوض المتواجدين عادة في دولة مختلفة، تثير مشكلة تنازع القوانين القيمة القانونية لتلك المستندات والمحررات، ومن بينها خطاب النوايا. ولما كان الأمر يتعلق بتصرف قانوني إرادي، فإن قاعدة الإسناد واجبة التطبيق لتحديد القانون المختص بحكم نظام خطاب النوايا، هي تلك الخاصة بالتصرفات القانونية الإرادية أو العقود، وهي المنصوص عليها في المادة 19/1 من القانون المدني المصري والتي ستعرض لشرحها لاحقا، والتي جوهرها خضوع العقود، والتصرفات الإرادية للقانون الذي يختاره الطرفان بإرادتهما الحرة.
ووفقا للنظرية العامة لتنازع القوانين في العقود، فإن القانون واجب التطبيق على خطاب النوايا، وهو قانون الإرادة، هو الذي سيحدد لنا القيمة القانونية له، ومدى قوته الإلزامية، والآثار القانونية المترتبة عليه. وهو ما سنتعرف عليه فيما بعد. غير أن مشكلة تنازع القوانين ستتقلص إلى حد بعيد لو حسم الأطراف بأنفسهم القوة والقيمة القانونية لخطاب النوايا. ولكن كيف؟.
17. التحديد الإرادي لقيمة خطاب النوايا: من ثوابت النظام القانوني للعقود، أن إرادة الطرفين تتمتع بسيادة Souverainete وإستقلال Autonomie فالسيادة تعني أن إرادة الطرفين هي المشرع لمختلف بنود ونصوص العقد حسبما تتلاقى مصالح الأطراف. وما يضعه هؤلاء يعد قواعد قانونية خاصة Lex private تشكل في مجموعها القانون التعاقدي Loi contractuelle الذي ينظم علاقات وروابط الأطراف، ويشبه القانون الصادر من البرلمان.
أما الإستقلال، فهو يعني انه في إعداد القواعد الإتفاقية النظامية لا يخضع المتعاقدان لغير ما تمليه عليهما المصالح والمنافع المشتركة، مع التحفظ الخاص بعدم الإرتباط بمقتضيات المصلحة العامة ومبادئ وقيم النظام العام. وكلا الوجهين يجسدهما المبدأ الذائع "سلطان الإرادة" الذي إعترف به المشرع الوضعي صراحة (م 147 مدني مصري و م 1134 مدني فرنسي) تحت مسمى العقد شريعة المتعاقدين، فالإتفاقات والعقود المبرمة بنحو قانون تعتبر قانون من أبرموها.
إذا كان الأمر كذلك، فإن إرادة محرر أو مصدر خطاب النوايا وسلوك الطرف الآخر يمكن أن يحسما مشكلة القيمة القانونية لخطاب النوايا، من ناحية قوته الإلزامية. فيستطيع الأطراف، لا سيما إرادة محرر أو مصدر الخطاب مع إقرار الطرف الموجه اليه، النص الصريح عند صياغة الخطاب، على أنه مجرد دعوة للتعاقد أو دعوة للتفاوض، وليس عقدا، يتضمن إيجابا Offre موجها للطرف الآخر الذي يقبله .
ويجب أن تخلو صياغة الخطاب من كل غموض أو عدم دقة، أو إستخدام الفاظ مطاطة ليس لها مفهوم قانوني محدد يمكن أن يدع مجالا للتأويلات والتفسيرات المتضاربة ليس فقط من جانب الطرفين، بل كذلك من جانب الجهة القضائية التي قد تنظر المسألة، عندما يدعي من وجه إليه الخطاب بأن الطرف الآخر قد أخل بالإلتزام تعاقدي أو إتفاقي ناشئ عن ذلك الخطاب، ويثبت أنه تم الإتفاق على نقاط ومسائل محددة من العقد النهائي وذلك خلال عملية التفاوض، ويطالب بترتب المسؤولية القانونية عن الإخلال بإلتزام عقدي. وعلى العكس مما سبق، يمكن للأطراف تقرير ان خطاب النوايا يتضمن اتفاقا على مسائل معينة، يعتبر بشأنها أنه قد أبرم عقدا، وبالتالي يكون للخطاب القيمة القانونية للعقد، بحيث تترتب مسؤولية من يخل بالتزاماته الناشئة عنه، من ذلك الإتفاق على متابعة التفاوض بحسن نية، أو الإتفاق على عنصر الثمن في العقد النهائي .
وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية عدم إفراط مدراء الشركات والمؤسسات في الإعتقاد بكفاءة الملحقين المهنيين لديهم، كالمهندسين ومسؤولي العلاقات الخارجية، في إعداد خطابات النوايا، وضرورة أن يعهدوا إلى القانونيين المختصين وذوي الخبرة في مجال التعامل الدولي في تحضير ومراجعة خطابات النوايا، مع الإستعانة بزملائهم المهنيين في القطاعات الهندسية أو التجارية، وذلك تلافيا لمشكلات تفسير محتويات خطاب النوايا، هذا لا سيما وأن مواقف القوانين الوضعية ليست واحدة في شأن القيمة القانونية لخطابات النوايا، على ما نرى فيما يلي:
ثانيا: القانون واجب التطبيق على خطاب النوايا وقيمته القانونية:
18. الجوانب الشكلية في خطاب النوايا: أسلفنا بيان أن خطاب النوايا هو تصرف قانوني صادر عمن يملكه. وهو تصرف قانوني إرادي acte volonatire. وككل تصرف قانوني لا بد أن يفرغ خطاب النوايا في شكل محرر مكتوب أو دعامة ورقية أو رقمية ، تثبت محتواه.
وفي مجال التعامل الدولي عن طريق العقود، يكون خطاب النوايا تصرفا قانونيا عابرا للحدود، ويتصل بالنظام القانوني لأكثر من دولة، وهو ما يقود بالضرورة إلى تنازع القوانين حول الشكل الذي ينبغي أن يفرغ فيه. وتخضع مسألة شكل خطاب النوايا للقاعدة العامة في حال تنازع القوانين في مسائل شكل عموما، وهي التي قرر خضوع الشكل لقانون المحل Locus regit actum فالخطاب الذي يحرر أو يعد في مصر يخضع في شكله إلى القانون المصري.
غير أنه بالنظر للطابع الإختياري Caractere facultaif لقاعدة خضوع الشكل لقانون المحل، وأعمالا لنص المادة 20 من القانون المدني المصري، فإن خطاب النوايا يعد صحيحا من حيث الشكل، إذا إستوفى الشكل الذي يقرره، فضلا عن قانون محل إعداده، القانون الذي يحكم موضوعه، أو قانون الموطن المشترك للطرفين مصدر الخطاب والموجه اليه أو قانون جنسيتهما المشتركة على ما سوف نوضح تفصيلا فيما بعد .
19. الجوانب الموضوعه في خطاب النوايا، قوته الإلزامية: إذا لم يحدد مصدر الخطاب ويبين حقيقة مضمونة، وما إذا كان يحتوي على تعهدات إتفاقية لها أثر ملزم binding effect يشكل الإخلال بها خروجا على التزامات تعاقدية ترتب المسؤولية القانونية، فإن القيمة القانونية لخطاب النوايا تخضع في تحديدها للقانون واجب التطبيق على التصرفات القانونية الإرادية. وهو القانون الذي يختاره أطراف التفاوض صراحة أو ضمنا، أو قانون محل إعداد وتحرير الخطاب، أو قانون الموطن المشترك (م 19/1 مدني).
وعلى ذلك إذا أشارت قاعدة الإسناد المشار إليها بإختصاص قانون دولة أجنبية، فإن هذا القانون هو الذي يحكم القيمة القانونية لخطاب النوايا. وتختلف القوانين الأجنبية في هذا الشأن، حيث لا يعترف، جانب منها، لخطاب النوايا بأي قوة إلزامية، أو طبيعية تعاقدية، وهذا على خلاف البعض الآخر . وإليك البيان.
20. الوضع في القانون الإنجليزي: يتجه الرأي إلى أنه ليس لخطاب النوايا، بحسب الأصل قيمة تعاقدية، وبالتالي ليس له قوة ملزمة Force contraignante بالنسبة لمصدره، فهو وعد ونية Intent ، أو تعهد شرف، أو إتفاق جنتلمان – Gentleman's agreement، لا يصلح في غير وجود إرادة صريحة لمصدره، أن يكون إتفاقا تعاقديا يرتب أثرا، ومن ثم لا يكون ملزما Non Binding . ويتأكد عدم إلزام خطاب النوايا وتجرده من كل قيمة قانونية إذا إنطوى على عبارة أن إحترام ما ورد بالخطاب والإلتزام به معلق على التوقيع على شروط العقد النهائي subject to contract clausos ، حتى ولو تضمن الخطاب، في ذات الوقت، النص على ضرورة تفاوض الأطراف بحسن نية Good faith negociation .
ويرجع كل ذلك أن عامل المخاطر والإحتمال هو الذي يحكم مصير المفاوضات التي قد تنتهي بالنجاح أو بالفشل، فإذا كان الأمر كذلك، فإن على كل طرف مفاوض أن يتحمل مخاطر المفاوضات، وقبل توقيع العقد النهائي، لا يرتب أي حق أو التزام لمن أصدره.
وعلى وجه التحديد نشير إلى أن القانون الإنجليزي لا يعير قيمة كبيرة لخطاب النوايا من ناحية الزاميته انطلاقا من مبدأ أكبر هو عدم التسليم بما يسمى بعقد التفاوض contract to negociate الذي يمكن ان ينشأ عنه التزام بالتفاوض، فهو عقد إحتمالي – aleatory contract يلحقة البطلان لسبب الشك الذي يلف عناصره وأركانه .
وقد جرى القضاء الإنجليزي على عدم الإعتراف بالمسؤولية قبل التعاقد وكل ما يدور أثناء المفاوضات وقبل التوصل إلى إتفاق حقيقي، وكل الوثائق، ومنها خطابات النوايا، تكون خارج دائرة القانون . ففي قضية تتلخص وقائعها في أن إحدى الشركات الهندسية قد أرسلت خطاب نوايا إلى شركة أخرى تخبرها برغبتها في التعاقد معها، وأخطرت ببدء الأعمال دون إنتظار. وعلى إثر الخلاف بين الطرفين، ورفع الأمر إلى القضاء، قررت المحكمة المختصة أنه لم ينشأ عن خطاب النوايا الصادر من الطرف الأول أي التزام تعاقدي، رغم بدء تنفيذ الأعمال من قبل الطرف الآخر .
21. الوضع في القانون الأمريكي: أما في القانون الأمريكي فيبدو إنه إذا كان يتفق مع القانون الإنجليزي من ناحية عدم الإعتراف لخطاب النوايا بقيمة الزامية، غير أنه لا مانع من الخروج على ذلك المبدأ حسب ظروف وملابسات كل حالة على حدة.
أولا: أنه بخصوص خطابات النوايا المتضمنة عبارة أن الإلتزام بما جاء بخطاب النوايا معلق على إعتماد وتوقيع شروط العقد النهائي subject to contract clauses فلا تكون مجردة من كل قيمة كما هو الحال في القانون الإنجليزي بل إنه يمكن إلزام مصدر الخطاب بما ورد فيه، إذا أثبت من وجه إليه أنه بالرغم من وجود تلك العبارة فإن الطرفين قد توصلا إلى إتفاق بخصوص بعض البنود والعناصر الجوهرية في العقد المزمع إبرامه، وأن التوقيع على هذا الأخير ليس سوى تأكيد لذلك الإتفاق، ومن ثم يكون مصدر الخطاب ملتزما بما تم الإتفاق عليه، كما جاء في خطاب النوايا، ويسأل عن الإخلال به حتى قبل توقيع العقد الأساسي .
ثانيا: أن للقاضي حرية تقرير قوة إلزام خطاب النوايا إعمالا لمبدأ Estoppel شهير في الفقه الإنجلو أمريكي، ومقتضاه أنه "لا يقبل من أحد قول يتنافى مع سابق مسلكه" ، وإعمالا للواجب العام بمراعاة حسن النية والتعامل بإنصاف بين طرفي التفاوض، وهو واجب تفرضه المادتان 203/1 من القانون التجاري الموحد والمادة 205 من تقنين العقود للولايات المتحدة. وهذا ما طبقه القضاء الأمريكي بالفعل في قضية Texaco inc. V. Pennzoil عام 1986 . وتتلخص وقائعها في أن شركة "بنزاويل" قد إتفقت مع المساهمين الرئيسيين في شركة GETTY موجب مذكرة إتفاق Memorandum of agreement على دخولها كشريك معهم، وقد أنطوت تلك المذكرة على شرط ضرورة إعتمادها من مجلس الإدارة حتى تصبح نافذة، وبعد أن تم إعتماد مذكرة التفاهم، تم الإعلان عن إبرام إتفاق مبدئي agreement in principale موضحا به أن نفاذه متوقف على توقيع العقد النهائي. غير أنه على إثر مفاوضات سريعة وسرية تم نشر إعلان عن أن شركة "جيتى" قد إشترتها شركة "تكساكو". وقد ترتب على ذلك أن قامت شركة "بنزاويل" بمحاولة التنفيذ العيني لمذكرة الإتفاق أمام محاكم ولاية دولار، غير أن الأمر رفع أمام محاكم ولاية تكساس على شركة تكساكو لمطالبتها بمبلغ سبعة مليارات من الدولارات كتعويض زيدت إلى 7 مليارات أخرى كجزء تعويضي Punitive damages لها عن تحريضها شركة "جيتي" على الخروج على تعهدها التعاقدي، لمخالفة ذلك لمبدأ حسن النية والتعامل بإنصاف ونزاهة.
ومن حيث أن البت في المسألة يتوقف على تحديد القيمة القانونية لمذكرة الإتفاق، فإن المحلفين وهيئة المحكمة قد انتهوا إلى صحة تلك المذكرة، وهي صورة من صور خطابات النوايا، والحكم على شركة تكساكو بدفع مبلغ عشرة مليارات دولار شاملة سبعة مليارات دولار كتعويض عن الضرر، وثلاثة مليارات كجزاء تعويضي تم تخفيضه في الإستئناف إلى مليار واحد. هذا عن النظم القانونية الإنجلو امريكية.
23. موقف بعض القوانين الجرمانية: أما القانون الألماني، فالأصل فيه أن خطاب النوايا غير ملزم، ولا تترتب عليه مسؤولية عقدية، على أن هذا لا يعني إعفاء أطراف التفاوض من الدخول فيها بحسن نية ومراعاة الإنصاف وإعتبارات العدالة في تعاملهم. وعلى ذلك يمكن ترتيب مسؤولية التعويض عن المفاوضات قبل التعاقدية على أساس الإخلال بإعتبارات حسن النية والثقة والامانة المتبادلة بين أطراف التفاوض، من ذلك أن يقطع أحد الأطراف المفاوضات فجأة ودون سبب مقبول، أو يتسبب عمدا في خلق إعتقاد وتوقع مشروع لدى الطرف الآخر بأن العقد النهائي على وشك الإبرام والتوقيع عليه رغم أنه كان يعلم أو كان من المفروض عليه أن يعلم إستحالة تحقيق تلك التوقعات .
وعلى ذلك يمكن القول، ومن خلال التطبيقات القضائية للمحاكم الألمانية، أن خطاب النوايا، وإعمالا لنظرية في تكوين العقد culpa in contrahendo التي أساسها حسن النية كما جاء في كتابات الفقيه الألماني إيرنج R.C. IHERING ، يمكن أن يرتب مسؤولية في حدود ما تم الإتفاق عليه في عدة حالات:
• الإخلال بالإلتزام بالمساهمة أو المشاركة بفعالية في التفاوض أو المساهمة في تكاليفه.
• الإخلال بالتزام بسرية المعلومات التي يكشف عنها في مرحلة التفاوض.
• إجراء مفاوضات موازية مع طرف ثالث.
ويقترب من القانون الألماني القانون النمساوي، حيث أنه إذا كان خطاب النوايا غير ملزم بحسب الأصل، إلا أنه يرتب مسؤولية التعويض إستنادا إلى نظرية "الخطأ في تكوين العقد" المشار اليها في عدة حالات منها.
• تعمد عدم كشف بعض مواصفات وجوهر موضوع العقد الذي يجري التفاوض حولة.
• الكشف عن الصعوبات والعقبات التي صادفت توقيع العقد.
• الإمتناع دون سبب معقول عن توقيع العقد بعد أن توفر الإعتقاد الحقيقي عند الطرف الآخر
بان العقد في سبيل إبرامه .
24. موقف القانونين الفرنسي والمصري: في القانون الفرنسي، وكذلك القانون المصري، فإنه ليس لخطاب النوايا قوة الزامية، أو طابع تعاقدي يمكن أن يرتب مسؤولية عقدية بالنسبة لمصدره أو الطرف الآخر الذي وجه إليه، وذلك إنطلاقا من مبدأ عام هو حرية المفاوضات حيث يظل لكل طرف فيها الحرية في مواصلة المفاوضات، غير أنه لا يجب عليه أنهاؤها إذا كانت قد شارفت على نهايتها وتوفر لدى الطرف الآخر توقع مشروع في قرب تمام الوصول إلى إتفاق نهائي. غير أن ليس هناك ما يمنع الأطراف من تفادي بعض النقاط الخاصة بالعقد النهائي ويرتضيها مصدر خطاب النوايا ومن وجه إليه، وهنا تترتب المسؤولية العقدية عند الإخلال بما تم الإتفاق عليه . وهذا التكييف التعاقدي لما ورد في خطاب النوايا، لا يقيد، مع ذلك، القاضي أو المحكم الذي يستطيع إسباغ الوصف الصحيح على مضمون الخطاب . طالما كان تكييفه قائما على أسباب موضوعية وسند حقيقية، كل ذلك تحت رقابة محكمة النقض في حالة عرض النزاع على المحاكم الوطنية.
وفي جميع الأحوال يتعين الفحص الموضوعي لمضمون خطاب النوايا، وكذلك البحث عن الإرادة الحقيقية لمصدر الخطاب ، وللطرف الآخر الذي تلقاه وفقا للأصول العامة في التفسير فتلك الإرادة، وإعمالا لمبدأ سلطان الإرادة، تستطيع إنشاء التزام تعاقدي والدخول في دائرة المسؤولية العقدية المنظمة قانونا، كما تستطيع أن تظل حرة طليقة لا تفرض التزاما على صاحبها . ومع ذلك يمكن ترتيب المسؤولية والتعويض عن الخطأ التقصيري إن توفرت شروطها، لا سيما الإخلال بالواجب الأساسي بمراعاة حسن النية في مرحلة المفاوضات، والإنحراف عن السلوك السوي المعتاد للشخص اليقظ إذا وجد في ذات الظروف .
وعلى كل حال، فإن تحديد القيمة القانونية لخطابات النوايا، وبحسبانها مستندات ووثائق يتم تحريرها وتبادلها قبيل وأثناء مرحلة المفاوضات في العقود الدولية، يمكن الكشف عنها من خلال بحث حقيقة ما يتم في تلك المفاوضات وهذا يقتضي التعريف على التنظيم القانوني لمفاوضات العقود الدولية، وهو ما نعالجة فيما يلي.
المبحث الثاني
تنظيم المفاوضات في العقد الدولي
25. تمهيـد: أضحت المفاوضات لازمة ضرورية تسبق إبرام العقد الدولي، لا سيما في ظل الوضع الحالي للمبادلات والمعاملات الدولية، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب:
أولها، موضوعي، يرجع إلى أن العقود الدولية المعاصرة ليست بالعقود البسيطة التي يتفق على عناصرها وتبرم في أول لقاء. فهي عقود مركبة ومعقدة فنيا، على ما أشرنا عند بحث خطابات النوايا.
ثانيها، شخصية، ترجع إلى أطراف تلك العقود، فغالبا ما يتنافس على الفوز بتلك العقود شركات عملاقة ذات نشاط دولي، ويلزم التعامل معها الوقوف على سوابق أعمالها، وخبراتها السابقة، ومنهجها في التعامل. كما أن الطرف الآخر، غالبا ما يكون كذلك من الدول النامية، التي تسعى إلى إقامة مشروعاتها وتحقيق أهدافها التنموية إجتماعيا وإقتصاديا وفق أفضل الشروط التي تتلاءم مع إمكانياتها المادية، وكل ذلك يستلزم الدخول مع مفاوضات شاقة وعسيرة حول ما تزمع إبرامه من عقود دولية . وتلعب إرادة الأطراف دورا لا يستهان به في تنظيم عملية التفاوض، خصوصا وأن النظم القانونية المختلفة تكاد تخلو من أي تنظيم قاعدي يمكن إتباعه، ومنها النظام القانوني المصري. وبتلك المثابة، يبدو مهماً إلقاء الضوء على أساسيات تنظيم المفاوضات في النظام القانوني الدولي، وهو ما نعرضه في أربعة مطالب على التوالي.
المطلب الأول
ماهية المفاوضات وضرورتها
أولا: تعريف المفاوضات
الوضع قديما والفراغ التشريعي: قد يزعم البعض أن المفاوضات في إبرام التصرفات القانونية فكرة قديمة، ترجع بجذورها إلى التاريخ الذي عرف فيه الإنسان الإلتقاء مع بني جنسه في الأسواق للتبادل، بل ومقايضة السلع والخدمات، حيث تجري بعض المساومات speculations والأخذ والعطاء والرفض والقبول حول أسعار السلعة أو الخدمة، حتى يلتقي الطرفان، في النهاية، على كلمة سواء, وتتم عملية المبادلة أو المقايضة. وتلك المساومات والحوارات هي نوع من المفاوضة التي تمهد لتلاقي الإرادات وترتيب الأثر المبتغى. وهذا الزعم يبدو مقبولا إلى حد ما، ذلك أن المعاملات والصفقات كانت بسيطة وإجراء مناقشة لبضع دقائق كافية لتسوية كل النقاط محل الخلاف بين الطرفين، وقد عضد هذا النظر إلى العقد على أنه تلاقي إرادتين، إيجاب يعقبه قبول، بعد محادثات وقتية سريعة.
ويبدو أن مشرعي بداية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين قد قنعوا بذلك الفكر المبسط لحالة المبادلات التعامل المالي بين الأفراد، ولذلك جاءت التقنيات المدنية بدءا من القانون المدني الفرنسي لعام 1804 وحتى القانون المدني المصري لعام 1949 خالية من أي إشارة إلى المفاوضات وقواعد تنظيمها. ولم ينتبه إلى بعض مشكلات المفاوضات، وإن كان على نحو مبتور، إلا جانب من القوانين الأوروبية، كالقانون المدني الإيطالي لعام 1942 الذي تكلم فقط عن ضرورة التزام حسن النية في مفاوضات العقود عموما (م 1337) والقانون المدني اليوناني لعام 1946 (م 197 و 198).
26. العقود الدولية الحديثة وفرض المفاوضات: غير انه مع تطور وسائل النقل والإتصالات والدخول في الصفقات التجارية الكبرى، أضحت الأفكار التقليدية للتفاوض والمساومة غير كافية لإنهاء تلك الصفقات، والإستجابة لحاجات ومعطيات الإنتاج الصناعي والتكنولوجي، حيث أن عقود تلك الصفقات تنطوي على جوانب كبيرة من المخاطر، ويترتب عليها إنتقال سلع وخدمات عبر الحدود تقدر بمليارات الدولارات. وهو ما يوجب إفساح الوقت أمام أطراف التعامل للدخول في لقاءات ومناقشات مكثفة حول الثمن أو الأسعار، ومواعيد التوريد، وكيفية التنفيذ، وقته ومكانه، وضماناته، وجزاء الإخلال بالإلتزامات التي ستنشأ، فضلا عن مناقشة الأعمال التحضيرية مثل الفحوص الفنية ودراسات الجدوى الإقتصادية، وإعداد خطط المشروع وتوفير وسائل تمويله والتأمين على عناصره . وكل هذا يقتضي جلوس أطراف التعامل سويا وتبادل الأفكار والمناقشات حتى تتم المعاملة المطروحة، أو تفشل ويذهب كل طرف إلى سبيله. ومما تقدم يظهر لنا أهمية الوقوف على ما هية المفاوضات، وهي ظاهرة عامة تقابل في ميدان العقود والعمل، والإدارة وغيرها .
27. تعريف المفاوضات: تلعب المفاوضات دورا وقائيا هاما في إبرام عقد إرتضاه أطرافه، وسينفذ كل منهم التزاماته بطريقة سلمية هادئة، وسيجنبهم مغبة الدخول في منازعات وولوج ساحات قضاء الدولة أو قضاء التحكيم.
ومن هنا نطرح السؤال: ما المراد بالمفاوضة أو المفاوضات؟
ذهب البعض إلى تعريف المفاوضة بأنها عملية تطرح فيها مقترحات او مشروعات صريحة لغرض التوصل لإتفاق بالتبادل أو المقايضة أو على أساس تحقيق مصلحة مشتركة عندما توجد المصالح المتفاوضة .
وجاء في الموسوعة الدولية للعلوم الإجتماعية أن المفاوضات هي شكل من أشكال التفاعل تحاول فيه الحكومات أو الأفراد أو المنظمات إدارة بعض مصالحهم المتصارعة، أو هو عملية صريحة تتعلق بمشروعات او مقترحات ومقترحات مضادة . وقيل إن التفاوض هو "التحاور والمناقشة للوصول إلى إتفاق مشترك بين طرفين للحصول على حل متفق عليه للحفاظ على مصالح الأطراف المتفاوضة وحل ما بينها من مشكلات أو تقريب وجهات نظرها بأسلوب حضاري .
ومن التعريفات المتداولة أيضا، نذكر ما قرره البعض من أن التفاوض هو تبادل لوجهات النظر وتسوية الإختلافات والبحث عن مناطق محل اتفاق مشترك والمصلحة المتبادلة والوصول لبعض أشكال الإتفاق شفويا أو تحريريا، رسميا أو غير رسمي. وجاء في قاموس webster's أن المفاوضات عملية مواجهة أو تساوم أو مناقشة غرضها الوصول الى إتفاق .
28. تعريفنا للمفاوضات: ومهما يكن من أمر هذه التعريفات، فإنه يمكن القول إن المفاوضة هي التحاور والمناقشة وتبادل الأفكار والآراء والمساومة بالتفاعل بين الأطراف من أجل الوصول الى إتفاق معين حول مصلحة أو حل لمشكلة ما: إقتصادية، قانونية، تجارية، سياسية. من هذا التعريف يتبين أن هناك عدة عناصر يجب مراعتها للوصول إلى ماهية وجوهر المفاوضة.
أولا: وجود مشكلة أو مصالح متعارضة بين طرفي العملية التفاوضية، وفي مجال العقود الدولية يتمثل ذلك في محاولة حسم مشكلة السعر أو الثمن، أو إعادة التوازن إلى العملية التعاقدية عندما يطرأ تغيير في الظروف , يقلب الموازين والحسابات الإقتصادية إضرارا بمركز أحد طرفي التفاوض، أو أي أمر آخر....
ثانيا: التفاعل INTERACTIVITE والاتصال بين طرفي التفاوض، وذلك بالالتقاء الشخصي في موعد ومكان يتفق عليه، والدخول في محاورات ومناقشات ومساومات شخصية وتبادل المقترحات والأفكار حول المشكلة المطروحة.
ثالثا: القصد إلى الوصول إلى اتفاق أو حل للمسألة المطروحة، وهذا أمر بديهي، فالتفاوض الذي يجمع بين أطراف لا أهداف لهم، هو عبث واضاعة للوقت والنفقات. فلا خلاف في أن وجود هدف معين يحدده كل طرف هو الحافز الدافع الى الدخول في عملية التفاوض.
وعادة يتمثل ذلك الهدف في مصلحة مشتركة بين طرفي التفاوض . وهي ليست مصلحة إنفرادية لطرف دون طرف، وإلا ما إرتضى هذا الأخير الجلوس على مائدة المفاوضات.
غير أنه إذا كان للمفاوضات قصد أو هدف، هو تحقيق المصلحة المشتركة لطرفيها، إلا أنه لا ينبغي الوصول إليه بأي ثمن. فقد يفشل الطرفان في الوصول إلى إتفاق أو تسوية المشكلة القائمة بينهما. فليس بلازم أن تؤول نهاية المفاوضات إلى النجاح وتسفر عن إتفاق. فهناك العديد من الظروف والعوامل التي تتحكم في سير العملية التفاوضية، وتجعل نتائجها الإيجابية او السلبية إحتمالية الى حد بعيد . فكفاءة المفاوض وخبرته، والقوه الإقتصادية لكل طرف، وحاجته إلى الدخول في هذا النوع من التعامل أو ذاك، نوع الإستراتيجية المتبعة في المفاوضات والتكتيك المستخدم لتنفيذها، وطبيعة العملية او المشكلة المطروحة على بساط التفاوض.... كلها عوامل تؤثر على النتيجة النهائية للمفاوضات .
وعلى هذا لا يبدو سليما القول إن المفاوضات ليست غير تبادل للتنازلات بين طرفيها ، لان مقتضى ذلك أن هناك نتيجة الوصول إليها بأي ثمن، وهو أمر قد يصيب بأبلغ الضرر المتعاملين في مجال التجارة الدولية، لأن تلك الأخيرة تقوم على حسابات وتوقعات وحدود لا يمكن النزول عنها. وسوف نزيد ذلك إيضاحا عند عرض ضرورة وإستراتيجيات التفاوض.
ثانيا: ضرورة وأهمية المفاوضات:
30. الضرورات المنطقية: المتأمل في فلسفة المفاوضات يدرك أن هناك عدة ضرورات منطقية تفرض اللجوء إليها. من ناحية، التواصل والتفاعل الإنساني، ومقتضاه أن الإنسان، منذ وجد لا يستطيع أن يحيا بمفرده منكفئا على نفسه قادرا على إشباع حاجاته اليومية إكتفاء بمساعيه وموارده الذاتية، فهو لا بد داخل مع الغير من بني جنسه في معامل